أودّ في ما يلي أن أقدّم بعض التّأملات الموجزة حول معنى “الوطن” – بالنسبة لي بصفتي مُتخصّصاً إنجليزيّاً في الكتاب المقدّس، وبالنسبة للعرب واليهود الذين عشت بينهم في الأراضي المُقدّسة، وبالنسبة للكتاب المقدّس نفسه، والّذي على ضوئه أقوم بشرح تجربتي وتجربة طرفي الصّراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ. وسأبدأ من نفسي أوّلاً، على الرغم من أنّني لم أكن مدركاً للأمر دائماً، إلا أنّ “الوطن” كان موضوعاً مهمّاً في حياتي، لأنّ لا جذور لي.
فبحكم عمل والدي فقد نشأت في بلدان عديدة ولم أعش قطّ مع عائلتي في إنجلترا. لقد خبرت إنجلترا بشكلٍ أساسيٍّ مِن خلال المدرسة الدّاخليّة، حيث قضيت فيها ثمانية أعوام من حياتي. كان مكاناً لا يمكن أن أسمّيه “وطناً”. كانت تجربتي الأولى مع مكان أصبح “وطناً”، بالنسبةِ لي عندما سَافرت فِي سنّ الثَّامنة عشرة إلى الأراضي المُقدّسة، وعشت وعملت بين يهود علمانيّين (غير متديّنين)، بما في ذلك أطفال ضحايا محرقة الهولوكوست. خلال هذه الزيارة قادتني الرحلة أيضاً إلى مُجتمع مَسيحيّ فِي مَدينة مُختلطة بين اليهود والعرب. هناك لم أكتشف الوطن فحسب، بل اكتشفت الله بطريقة أعمق أيضاً. ومنذ ذلك الوقت ظلت تلك الأرض والوطن والله مُتصلين مَع بِعضهم البعض بالنسبةِ لي بِطريقةٍ أو بأخرى.
والآن ننتقل إلى اليهود؛ فالبنسبة إليهم لطالما كانت إسرائيل والوطن والله دائماً على ارتباط ببعضهم البعض، وإن كان ذلك بطريقة مختلفة. فالاعتقاد اليهوديّ التقليديّ، هو أنّ أرض إسرائيل قد منحها إيّاهم الله على أنّها المكان الوحيد الذي يمكن أن يسمّوه وطناً حقيقيّاً ونهائيّاً. ولكنّهم على مَدى الألفي سنة الماضية عَاش مُعظم اليهود خارجها وهم ينظرون إليها على أنّها مكان الوعد الإلهيّ، ولن تكون عودتهم إليها إلا من خلال مُعجزة. وبالفعل عاد الكثيرون منهم منذ سبعين عاماً. المفارقة في الأمر أنّ واحدة من الأحداث الّتي دفعت معظمهم إلى القيام برحلة العودة– أعني المحرقة (الهولوكوست)– كان فظيعاً لدرجة أنّ بعضاً منهم، بعد أن وصلوا إلى هناك لم يعودوا قادرين على الإيمان بالله، وربّما هذا هو السبب كون غالبيّة اليهود الإسرائيليّين علمانيّين.
الاعتقاد اليهوديّ
التقليديّ، هو أنّ أرض إسرائيل قد منحها إيّاهم الله على أنّها المكان الوحيد الذي يمكن أن يسمّوه وطناً حقيقيّاً ونهائيّاً
إنّ مَصدر الاعتقاد اليهوديّ، بأنّ خطّة الرَّب لجعلِ “إسرائيل” وطناً قوميًّا لليهود، هو الكتاب المقدّس، وهو كتاب يعتبره المسيحيّون أيضاً كلمة الله (نضيف قسماً إضافيًّا ندعوه “العهد الجديد”، والّذي يُلقي ضوءاً مُحدّداً على القسم الأول، أي “العهد القديم”). لا أريد الخوض هنا في التفسير اليهوديّ هذا، ولكن بدلاً مِن ذلك أودّ أن أطرح على هذا الكتاب سؤالاً أكثر جوهريةّ: ما الّذي يُعلّمنا إيّاه هذا الكتاب عن موضوع “الوطن” بحدّ ذاته؟
فلننتقل الآن إلى الكتاب المُقدّس فنجد الجواب فِي بداية التاريخ الّذي يرويه. فهو يبتدئ بِخلق الله للعالم. ففي الفصل الأول من الكتاب نجد أنّ هذا الكوكب الماديّ خُلق لنا ليكون لنا وطناً. من ثمّ يتابع الكتاب في تعليمنا المزيد عن هذا الأمر، مُشيراً إلى أنّه يجب تلبية ثلاثة شروط لكي يكون هذا الكوكب وطناً لنا:
1- يجب أن يكون مكاناً يصفه الربّ بأنّه حسنٌ جدّاً، أي مكان خالٍ مِن العُنف أو المرض أو الموت (التكوين1:31).
2- يجب أن يكون مكاناً للثقة المتبادلة وللمحبّة في العلاقات الإنسانيّة (سفر التكوين 2: 25).
3- الأمر الأكثر أهمّية أنّه يجب أن يكون مكاناً يتواجد فيه الربّ بطريقة خاصّة بيننا (سفر التكوين3: 8).
فهذا هو الأمر الذي خلقنا لأجله: من أجل شراكة مع خليقة صالحة، مع بعضنا البعض ومع الله. فإن كان ذلك متوفّراً لدينا، عندها نكون بالفعل “في البيت/ الوطن”. فأوّل صورة للوطن في الكتاب المقدّس هي جنّة عدن (التكوين 2).
وفقاً للكتاب المقدّس فقد تمّ استيفاء هذه الشروط في البداية. كان آدم وحوّاء في “الوطن”. هذا يعني أنّه في بداية التاريخ قد حلّ أهلنا الأوائل فيه. فما الذي تتمنّاه النفس أكثر من أن تكون في وطنها؟ غير أنّ الرواية الكتابيّة تستمرّ في السرد: لقد خسر آدم وحواء وطنهما وطردا من الجنّة بعيداً عن الله. هذا يتوافق مع جزء مركزيّ من تجربتنا الإنسانيّة الكونيّة، أي أنّ ما نسمّيه وطناً يبقى دائماً محطّماً بطريقة ما. فالعالم من حولنا مليء بالموت، علاقاتنا ببعضنا البعض تتسم بعدم الثقة والتلاعب، العلاقة مع الله أضحت بعيدة وباهتة. لقد طُردنا جميعنا من عدن. فما هو السبب في ذلك؟ وفقاً للكتاب المقدّس، لقد نتج ذلك عن قرار الإنسان في محاولته أن يكون هو نفسه إلهه الخاص بدلاً من ترك الإله الحقيقيّ أن يكون إلهاً (سفر التكوين 4-5). لذا كان علينا أن نخرج من حاضره، أي حضور خالق الوطن.
ليس ذلك نهاية الرّواية الكتابيّة، إذ إنّها تتابع سردها. فبعد هذه الأخبار السيّئة تبشّرنا الرواية ببشارة صالحة: الأمور لن تبقى على ما هي عليه، فالربّ سيحرص على إتمام خطّته، يجدّد الأرض ويعيد الأمور إلى نصابها من جديد. هذا الأمر سيكون كما يصفه الأنبياء بطرق مختلفة: في خليقة مستقبليّة مُجدّدة لن يكون هناك موت ومرض (مثلا سفر الرؤيا 4: 21)، سيحبّ الناس بعضهم البعض ويثقون ببعضهم البعض ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد (مثلاً اشعياء2: 4)، وسيكون الربّ في وسطنا (سفر صفنيا 3: 17). يوماً ما سنصل حتماً إلى “البيت/الوطن”.
ماذا يعني كلّ ذلك لتجارب الفلسطينيّين واليهود اليوم؟ هناك أمر واحد واضح: إن قمنا بقياس التجارب المعاصرة لليهود الإسرائيليّين على ضوء أسفارهم المقدّسة، فإنّهم ليسوا “في الوطن” تماماً. حتّى لو افترضنا أنّ الله أعادهم بالفعل إلى هذه الأرض، فإنّ اليهود المؤمنين الّذين يقرؤون كتبهم المقدّسة يعرفون أنّ البلاد، كما هي اليوم، ليست المكان بعد الذي وعد به الأنبياء. فطالما أنّ الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه غائبة، فإنّ بني إسرائيل ما زالوا يعيشون في الشتات، حتى لو كان ذلك داخل حدود دولة يهوديّة. وماذا عن الفلسطينيّين؟ للفلسطينيّين تصوّرات مُختلفة حول الحلّ الأمثل لمشاكلهم:
دولة فلسطينيّة، دولة عربيّة – يهوديّة مُوحّدة، دولة إسلاميّة، وهناك حتّى من يفضّل أن يكون تحت الهيمنة اليهوديّة. لا أريد هنا أن أصدر الأحكام حول الحلّ الذي يقرّبهم من “وطنهم”. ولكن وفقاً للشهادة النبويّة، فقد خُلقنا لأمر لا يستطيع النظام الحالي للأشياء تحقيقه. يمكن أن تكون كلّ خطوة نحو تحقيق قدر أكبر من العدالة والسلام بمثابة إشارة إرشاد وتوجيه تشير إلى حقيقة ما وراء عالمنا المكسور، ولا يمكن أن يحقّقها إلا الرّبّ نفسه.
هذا هو الّذي سيأتي فِي النّهاية. وماذا نفعل في هذه الأثناء؟ للأسف ليس لديّ مساحة للإجابة عن هذا السؤال. ربّما سيكون هناك فرصة سانحة في مناسبة أخرى.
د. فيليب سام بتر
حاصل على إجازة في الانتروبولوجيا الثقافيّة وماجستير ودكتوراه في علم اللاهوت – تخصّص العهد القديم. كان موضوع أطروحة الدكتوراة لديه الهرمنيوطيقا (علم التأويل) اللاهوتيّة ومزامير داود. يعيش حالياً في ألمانية، ويعمل أستاذاً للعهد القديم، واللُّغة العربيّة فِي ثلاثة معاهد ألمانيّة، وهولنديّة، وأمريكيّة (أونلاين). عاش خمس سنوات في النّاصرة، وعمل ضمن المجتمع المسيحيّ العربيّ هناك.