إنّ مفهوم “الوطن” في السيّاق الحديث مُتعدّد الأوجه. فكلّ اِمرئ يُحدّد مفهومه للوطن بشكلٍ مُختلفٍ فالبعض يربط الوطن بالمكان الّذي يشعر فيه براحةٍ أكبر، والبعض الآخر بمكان الولادة، أو مكان سنوات الطّفولة والعائلة أو مكان الإقامة الحاليّة. وهناك من يضع حدود الوطن في منطقةٍ تكون لِمجموع النّاس فيها أرضيّة مُشتركة، كاللّغة، والثّقافة، والتّاريخ، أو مفهوم القوميّة الأحدث بينها نسبيًّا.
وبالمثل يشترك سُكّان العالم العربيّ– الإسلاميّ في هكذا مُقاربات لتحديد معنى “الوطن”. ولكن كيف يمكن أن نفهم الوطن في السيّاق القرآني؟
وبصرف النظر عن حقيقة أنّ محور الرسالة القرآنيّة له طابع أخرويّ، ويضع نصب الأعين التركيز على الآخرة اللانهائيّة الموعودة، فإنّ القرآن يسم الحياة الدُّنيا أيضًا بدلالةٍ مُهمّة، إذ هناك بعض الواجبات الّتي يجب على كلّ مؤمنٍ تأديتها خلال حياته الأرضيّة ولا يتوجّب إهمالها؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) سورة القصص، الآية 77.
ولا يوجد في القرآن آيات
تُبرّر أو تدعو النّاس إلى الارتباط بمنطقة جغرافيّة على أساس اللّغة أو العرق، وبالتالي لا يوجد في المفهوم القرآني عرق أو لُغة مُتفوّقان على اللُّغاتِ والأعراق الأخرى
ولا يوجد في القرآن آيات تُبرّر أو تدعو النّاس إلى الارتباط بمنطقة جغرافيّة على أساس اللّغة أو العرق، وبالتالي لا يوجد في المفهوم القرآني عرق أو لُغة مُتفوّقان على اللُّغاتِ والأعراق الأخرى. والعكس من ذلك، فإنّ القرآن يؤكّد على أنّ التقوى أو خشية الله هي الفضيلة المُثلى وأنّ الله خلق الشُّعوب المُتعدّدة بلغاتٍ مُختلفةٍ وألوان بشرة مختلفة ليتعارفوا، كما جاء في سورة الحجرات، الآية 13: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أو في سورة الروم، الآية 22: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).
وتلعب الأحلاف الوثيقة، والضيّقة، مثل حلف الأسرة، دورًا ثانويًّا فِي المفهوم القرآنيّ، فعلى سبيل المثال أدار النّبيّ إبراهيم ظهره لأبيه بعد أن تأجّج بينهما تباين دينيّ لا يمكن الوصول فيه إلى حلّ، كما جاء في الآيات 46-49 من سورة مريم: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا)، وكذلك الآية 23 من سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
يذكر القرآن في (سورة ابراهيم الآية 4)، أنّ الله بعثَ رُسله إلى شُعوب مُختلفة، وكلّ رسول يتحدّث بلغةِ النّاس الّذين أُرسِل إليهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ومع ذلك كانت مهمّة المرسلين دائمًا إيصال الرّسالة نفسها، أي الدّعوة إلى التّوحيد وعبادة الله الواحد الأحد (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ – آل عمران 3: 144) و(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ – المائدة 5:117).
مَن هنا يمكن الاِستنتاج أنّه على الرغم من اِختلاف اللُّغات والشُّعوب، فإنّ الرّسالة ظلّت كما هي، ممّا يضع التركيز الأساسيّ على الرسالة بعينها. وفي نهاية المطاف فإنّ القرآن، على المستوى الشامل، يُصنّف النّاس إلى معسكرين، معسكر الذين آمنوا بالله ومعسكر الذين كفروا به. وبناء عليه، يقوم المجتمع في القرآن على أساس واحد، أساس الاعتقاد الدينيّ، وفي هذا المجتمع بالذات يتكفّل المؤمنون بدور الأولياء، والرعاة، والحماة، لبعضهم البعض، كما تؤكّد عليه سورة الأنفال في الآية 72 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أو سورة المائدة في الآية 55: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
بهذه الوحدة الدينيّة يرتبط مفهوم الهجرة ارتباطًا وثيقًا، فبعد إخراج النبيّ محمّد (ص)، مِن مكّة وهجرته إلى المدينة، تمّت دعوة المؤمنين إلى اتباع هذا السبيل (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر 59: 9). فإن تعذّر على المؤمنين مُمارسة شعائرهم الدينيّة بسلامٍ، تُصبح الهجرة واجبًا عليهم، كما تنصّ عليه سورة النساء في الآيات 97-100: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا. وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).
يعدّ مفهوم الهجرة في
القرآن من الأمور المهمّة جدًّا، إذ إنّ حماية المؤمنين المهاجرين من قبل المؤمنين غير المهاجرين لا تكون فرضًا إلا في حالة الاضطهاد الدينيّ
يعدّ مفهوم الهجرة في القرآن من الأمور المهمّة جدًّا، إذ إنّ حماية المؤمنين المهاجرين من قبل المؤمنين غير المهاجرين لا تكون فرضًا إلا في حالة الاضطهاد الدينيّ، كما جاء في سورة الأنفال الآية 72: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). والقرآن يدعو إلى الدفاع عن النفس ضدّ المعتدي في حالة تعرّض مكان الجماعة الدينيّة للخطر (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ – البقرة 2: 190).
إنّ السؤال المهمّ الذي يطرح نفسه في الواقع يتلخّص في ما إذا كان وطن هذه الجماعة الدينيّة المتماسكة مرتبطًا بمنطقة جغرافية معيّنة. من حيث المبدأ، لا يوجد مكان محدّد يُفترض أن تلتقي فيه هذه الجماعة الدينيّة، فالأرض بأكملها تمّ وصفها، كما في سورة غافر 40: 64 على أنّها “قرار” أي المستقرّ الثابت، وبالتالي يمكن للجماعة الدينيّة أن تتمركز في أيّ مكان وتشيّد أيضًا دور عبادتها وتؤدّي واجباتها الدينيّة فيه (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ – سورة الأعراف 7: 29).
وعلى الرّغم من ذلك، تبقى الجماعة الدينيّة مُرتبطة إلى حدٍّ ما بِمنطقة جغرافيّة. هذه المنطقة يمكن العثور عليها في السياق القرآنيّ في الحرم الشريف في مكّة. لهذا السبب كانت مهمّة النبيّ محمّد والمؤمنين استعادة هذا الحرم بعد طردهم منه (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا – سورة الفتح 48: 27).
ويمكن إرجاع أهميّة هذا الحرم المُكعّب الشّكل إلى حقيقة تشييده، وفقًا للمفهوم القرآنيّ، مِن قبل النبيّ إبراهيم، أبي الدّيانات التّوحيديّة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ – سورة البقرة 2: 127).
يمكن تشبيه الحرم الشّريف فِي مكّة بِالمسكن أي خيمة الشّهادة وهيكل سليمان على الجبل في القدس في العهد القديم، مِن حيث أنّها جميعًا بِمثابة بيت رمزيّ لله يتخذه مجازيًّا منزلاً له وسط الجماعة الدينيّة. وإذا اعتبرنا أنّ القرآن تكملة واستمرار للعهدين القديم والجديد، فستصبح هذه الأهميّة المشتركة للبيت المقدّس باعتباره ممثّلا لبيت الله أكثر قابليّة للفهم.
وباختصار، فإنّ مفهوم الوطن فِي القرآن هو مكان التقاء الجماعة الدّينيّة، ويجب الذود عنه أيضًا في المِحن، غير أنّ هذا الوطن لا ينفصل أيضًا عن هذا الحرم الرئيس المقدّس ومكان الحجّ. إلا أنّ ذلك لا يمنع هذه الجماعة الدّينيّة مِن الاستقرار في مكان آخر، ولكن يبقى ظاهرًا الواجب على المؤمنين حماية هذا الحرم المقدّس وإبقائه تحت سيطرتهم.
كريستيان كيللينغ
مواليد دوسلدورف عام 1997، حاليًّا مُدرّس للّغة العربيّة في جامعة بون. شهادة في اِختصاص لُغات وثقافات العالم الإسلاميّ من جامعة كولونيا. شهادة دراسات عليا في اللّغات الشّرقيّة والآسيويّة – تخصّص لُغة عربيّة وترجمة من جامعة بون. يتمحّور عمله العلميّ حول تصنيف اللّغة العربيّة داخل اللّغات السّاميّة.