“الوطن”، مفهوم مُتعدّد الأبعاد؛ يتحدّد فِي علم الاجتماع الحديث بالأرض الّتي يرتبط بها جماعة مِن النّاس بعلاقةِ المصلحةِ لِما تقدّمه من أجلِ بقائهم وحسن استمرارهم وتقدّمهم، قبل أن تسِمَهم تلك الجغرافيا “العزيزة” بِسِماتٍ خاصّة، شكلًا ونفسًا وعقلًا ومؤهّلات، فتصبح تعويذةً يحملونها في أعناقهم ووجدانهم، يذودون عنها، ويحنّون إلى تلك الأرض الأولى كلّما ابتعدوا.
وهذا الشُّعور بالانتماء يقوى ويشتدّ على المستوى النّفسيّ للفرد كلّما اِنسحبنا أكثر إلى الدّاخل ليغدو حنينًا جمعيًا لقاطني الأوطان أينما كانوا: من الوطن الكبير إلى أمكنةِ الطّفولةِ، إلى الزّوايا التي نصَبْنا فيها أغطيةَ الأسرّةِ خِيَمًا هشّةً منحتنا الشّعورَ بأمانٍ لذيذٍ لم تمنحنا إيّاه جدران الباطون المسلّح، أمانُ الرّحمِ الذي خرجنا منه إلى عالمٍ لا يربطنا به إلا الشّعورُ بالوجود وبالزّمان.
نزل الإنسانُ البدائيّ عن الأشجار في وطنه الأوّل وقطنَ الكهوفَ كأمكنةٍ تحميه في عالمٍ متوحشّ، وتأسّس الرّابط المتين بينه وبين الأرض التي استوطنها مع انتقاله من الصّيد إلى الزّراعة التي وفّرت له الاستقرار ووسائل حياةٍ أفضل، ومنها إلى حياة العشائر والقبائل التي غدا لها نظامُها الاجتماعيّ والسياسيّ وتصوّراتها الخاصّة عن العالمِ وظواهره المريبة، وعمّن يقفُ وراءها، قبلَ ظهورِ الممالك والدّول والامبراطوريّات. فكان الوطنُ بطبيعته محرّكَ خيال الإنسان ومنبعَ كلّ اكتشافاته وإبداعاته وتصوّراته حتّى الماورائيّة منها.
تجدر الإشارةُ إلى أنّ الوطنَ بقي مفهوماً حميمياً خاصّاً بغضّ النّظر عن تقلّص مساحته أو تمدّدها
في الدّنيا الحديثة والمُعاصرة تُذكَرُ الإبداعاتُ، ولكنّنا لا ننسى أنَّ شُعوبَ الأوطانِ دخلت فِي صراعات مُرعبة طَرحت أسئلة وجوديّة كبرى، بحيثُ لم تكن القنبلة الذريّة هي الأداة المُبتَدعة والنتيجة الوحيدة في هذه الدّوامة من السّعي إلى مزيد من التوسّعِ والسّيطرة خلف الحدود، ما رجّحَ كِفّةَ الإنسان-الصَّيّاد بطبعه الّذي اكتشف خيرات الأرضِ الهائلة وراكم معارفه بما يجعله سيّدًا على العالم ومنتصرًا على أقوام أخرى. إنّ اِتّساع دائرة الصَّيد وتطوّر أدواته هو ما وسَم ويسِمُ التّاريخ القديم والحديث والمُعاصر فوق جغرافيا الأوطان رغمَ ابتكارِ “قوانين رومانسيّة” لردع رغبةَ الصيّادين بالمزيد من الهيمنة.
تجدر الإشارةُ إلى أنّ الوطنَ بقي مفهومًا حميميًّا خاصًّا بغضّ النّظر عن تقلّص مساحته أو تمدّدها، فشعوب الأوطانِ المُنتصرةِ لا تَعتبر المناطق الجديدة التي “احتلّتها” أوطانًا لها، إنّما أسواقًا أو مستعمراتٍ جديدةً. فمفهوم الوطن يردّنا دائمًا إلى الجغرافيا الأولى التي استوطنتها الجماعة البشريّة، وإلى فكرة الشّعور بالحماية والأمان، أو بالاقتدار الذي يُبرز من جديد الحاجة النّفسية الأصليّة إلى السّيطرة على رقعة صيدٍ واسعةٍ اسمها الكرة الأرضيّة. فهل هكذا هي “نهاية التّاريخ”؟
من ناحية أخرى، إنّ مفهوم الوطن بالعلاقة مع الآخِرة بالمعنى الدّيني مسألة تبدو بغاية الحساسيّة والتناقض، بحيث يجب فهمُ النّظرةِ إلى مفهومين: الوطن والعالم. والخوض في المسألة ينتهي أحيانًا بما هو أكبر من قنبلة ذريّة لا يمكن تفصيل الحديث عنها في هذه العُجالة.
إنّ الوطن هو المكان الذي نشأنا فيه عبر التاريخ واكتسبنا منه خصوصيّاتٍ طبعت تفكيرنا ونفوسنا ومخيّلاتنا، كما وأدياننا، بطابعها الخاصّ
لقد أُشِيرَ إلى العالم في الفكر الدّيني، بتسميات مُختلفة، بوصفه موطن الكائن المخلوق، فكان العالمَ الماديَّ المنقوصَ بالتعلّقِ بما هو فانٍ، ومصدرًا للّهْوِ والبعد عن عالم الحقّ والحقيقة، وكان أرضَ الميعاد والهيكلَ الرّبّانيّ، وصورةَ الإبداع الإلهي، ونقيضَ “مملكةِ الأب”»، كما وكان أيضًا دار الفناءِ ودار الحرب والجهادِ والسّلام .. والواضح في مُعظم تلك التَّعاليم أنّ المقصود هو الإنسان كأمّة/ مُجتمعٍ بغضّ النّظر عن شكلِ الجغرافيا ومساحتها.
في البوذيّة، رابع أكبر ديانات العالم، لا تبدو فكرة الوطن كجغرافيا لمكانٍ محدّد ذات قيمة واضحة في خضمّ الفلسفة البوذية وغوامضها الكثيرة. فالبوذيّة تدعو إلى عدم التعلّق بالعالم بشكل كامل أو بأي شكلٍ للحياة الماديّة، بغيةَ الوصول إلى “النّيرفانا” بعد التخلّص من “الكارما” التي تنتهي مع كلِّ دورةِ حياةٍ جديدة بالعودةِ إلى العالم. الموتُ والتلذّذُ بالمكوثِ في العالم الإلهي، هو حلمُ البوذيّ وغايتُه الكبرى. لذلك لا يظهر “الوطن” إلا كأرضٍ للتّجارب الإنسانيّة القاسية والمؤلمة التي يمرّ بها البوذيّ خلال وجوده على الأرض في دورات التّناسخ الجحيميّة.
أما في اليهوديّة فقد اعتُبرت العودة إلى “صهيون” جزءًا من الحلم اليهوديّ الذي يعود إلى تدمير “الهيكل الأول-هيكل سليمان”. كانت أرض فلسطين منطلق الفكرة الأوسع التي تعتبر المنطقة من الفرات إلى النيل أرضًا “لدولةِ إسرائيل”. هذا على الرّغم من أنّ المحاولات الأولى بدأت بطروحات لإقامة هذا “الوطن” في الشّرق الأقصى الرّوسي، وفي كيمبرلي في أستراليا وفي جنوب غرب تسمانيا…
يكشف الله في اليهوديّة قوانينه ووصاياه لموسى على جبل سيناء. وبصرفِ النّظر عن الأفكار المؤسّسة لليهودية فإنّ “أرض إسرائيل” تحديدًا هي أرض الربّ التي تفوق بقدسيتها أية أرضٍ أخرى. إنّها الأرض الموعودة لليهود في التوراة والتي يجدون فيها هويتهم، وللأمكنة فيها أهميّة ودلالاتٌ في توثيق السّيرة التي تزعم وعدَ الله “بأرض الميعاد”.
تأتي المسيحيّة لتحسم كثيرًا من المسائل وتصوّبها في ردّ مباشر من يسوع نفسه حول فهم “التّعليم الإلهي” الذي أُعلن عنه في اليهوديّة، حيث كان حريصًا على تأكيد أنّ “مملكة الأب” أكبر من “صهيون” وأنّ “الهيكل” المؤسّس “لوطنٍ” مزعومٍ هو أمرٌ تافه أمام قدرة الله وجبروته. “اهدموا هذا الهيكلَ، وأنا سأبنيهِ في ثلاثةِ أيّام” (يوحنّا 2:91) “لقد استغرقَ بناءُ هذا الهيكلِ ستًّا وأربعين سنةً وأنتَ ستبنيه في ثلاثةِ أيّام؟” (يوحنّا 2:20).
يعلن يسوعُ بوضوح أنْ “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه” (مرقس 21:71) والقسم الأول من هذا القول يتكلّم عن الامبراطور الروماني الذي حكم بالقوة والقانون، وكان الواجبُ هو الولاء له ودفع الجزية والطاعة. وقد صار “قيصر” يعني لاحقًا السّلطة المدنيّة والقائمين عليها، وأحيانًا الوطن على اتّساعه، أو سلطة الوالدين، وقد يكون أيضًا أيَّ شيء من الاهتمامات الدّنيويّة. يطالب يسوع بالطاعة والاحترام للسّلطة وأن نحبّ الوطن ونخلص له ونخضع لشرائعه. وهذا الخضوع لا يعني الاستكانة السّلبيّة، وهو المعروفُ عنه أنّه دخل الهيكل وطرد منه اللّصوص والتجّار، “وقال لهم: مَكْتُوبٌ: “سَيُدْعَى بَيْتِي بَيْتَ صَلَاةٍ”، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَجْعَلُونَهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ” (متّى 12:21)
يقدّم يسوعُ الجواب النّهائي عن الرّؤية إلى “الوطن”، في الفصل الذي أقامه بين عالم السّماء والأرض: “مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لَكان خُدّامي يجاهدون لكي لا أُسَلَّمَ إلى اليهود” (يوحنّا:18:63).
يمكننا اختصار الموقف من الوطن في المسيحيّة بدعوتها الإنسان لأن يكون متواضعًا صالحًا محِبًّا وعادِلًا في “مملكةِ الأرضِ”، قلبُه غيرُ متعلّقٍ بمكانٍ أو قيمةٍ ماديّة، لكي يُقبَل في “مملكة الأب السماويّة”.
أمّا في الإسلام فنلحظ حضورًا أكبر لمفهوم الوطن بالمعنى الجغرافي الماديّ المُحدَّد، وتنظيمَ معاملاته. فالدّعوةُ إلى حبّه والتعلّق به واحترامه واجبٌ، وحقوقُه علينا كبيرةٌ ويجب إيفاؤها. وها هو النّبيّ (ص) حينَ هجرتِه من مكّة إلى المدينة المنوّرة، يقفُ على مشارفِ وطنه مكّة، ينظر إليها حزينًا، ليقول: “والله إنّكِ أحبُّ بلادِ اللهِ إلى الله وإلى نفسي، ولولا أنّ أهلَكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ”. كما نجدُ في القرآن الكريم آياتٍ كثيرةً عن الوطن والدّعوة إلى محبّته والذّود عنه: {ولو أنَّا كتبنا عليهم أنِ اقتلوا أنفسَكم أو اخرجوا مِن دياركم ما فعلوا إلا قليلٌ منهم..} (النّساء-66)، {وإذْ أخذنا ميثاقَكم لا تسفِكونَ دماءكم ولا تُخرجونَ أنفسَكم من دياركم} (البقرة-84)، {لا يَنهاكم اللّهُ عنِ الذين لم يقاتلوكم في الدّينِ ولم يُخرِجوكم من ديارِكم أنْ تَبرُّوهم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللّهَ يحبُّ المُقسِطين} (الممتحنة-8).
هذا وقد برزت مع الإسلام فكرة الوطن بخصوصيّته العربيّة، بما عند أهله من قيمِ يفاخرون بها وسماتٍ اكتسبوها عبر التّاريخ، وخصوصيّة الجماعة المؤمنة بالإسلام، النّاطقة بالضّاد كلغةٍ أرادها الله للقرآن، كما في الحديث الشّريف: “وكنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاس..”، بمعزلٍ عمّا إذا أكان المقصود هنا الذين خرجوا مع النّبيّ من مكّة، أو العرب المسلمين بشكل عامّ.
ختامًا، إنّ الوطن هو المكان الذي نشأنا فيه عبر التاريخ واكتسبنا منه خصوصيّاتٍ طبعت تفكيرنا ونفوسنا ومخيّلاتنا، كما وأدياننا، بطابعها الخاصّ. منه انطلقنا إلى العالم بالأبجديّةِ والأديان والثقافات والآداب والعلوم، وبحملات الغزو أيضًا. هذا الوطن-الجغرافيا الذي شيّدَ فهمنا “للنيرفانا”، “لمملكةَ الأب”، أو “لدار الآخِرة”، سيبقى-على عِلّاته- الملاذَ، والإثمَ الذي يلاحقنا. هو مسقطُ الرؤوسِ ورافعُها، وهو الحاضِرُ دومًا في كلّ شكلٍ من أشكال النّجاح والتفوّق والإبداع.
هنيبعل كرم
حائز على ماجستير في الدّراسات المسيحيّة الإسلامية – جامعة “البلمند”. ودبلوم في الفلسفة – الجامعة اللبنانية – بيروت. أستاذ اللّغة العربيّة والفلسفة في ثانوية سيّدة “البلمند”. منسّق اللّغة العربيّة في القسم الثانويّ- ثانوية سيّدة البلمند. أستاذ اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها في معهد القديس يوحنّا الدّمشقي اللاهوتي. جامعة البلمند. ناشط في الحقل الإعلامي والاجتماعي. ناشر في العديد من الصّحف والمواقع العربيّة وعضو اتّحاد الكتّاب اللّبنانيين، له العديد من المؤلفات، والمقالات العلميّة، والأدبيّة