إن الكتابة عن تاريخ رابعة العدوية ولادةً ووفاةً ونسباً ليس بالأمر السهل، واختصاراً للجدل في هذا الموضوع يمكن الاعتماد على الآراء التي تطرَّقت إلى شخصيَّتها.
1- رابعة العدوية: غموض وتشويق
. ويعود أوَّل رأي فيها إلى الجاحظ (163-255 هجري)1. والسبب في الاعتماد على هذا الرأي نقطةَ انطلاقٍ في هذه المرحلة الزمنيَّة من حياتها يرجع إلى أن الجاحظ عاش في زمن قريب من زمنها، وقد ذكرها باسم رابعة القيسية، من أهل البصرة، ونعتها بأنَّها من أهل البيان، وذكر أصل نسبها “العدوية” لأنَّها تنتمي لآل عتيك من بني عدوة2. ويوثِّق أغلب المؤرخين مولدها في البصرة دون أيِّ تبيان لتاريخ محدَّد لولادتها؛ إلا أننا نجد عند بعضهم مَن يُحدد تاريخ ولادتها، فقيل إنها وُلدت في عام 714 و717 و718 ميلاديّاً، وتُوفيت في عام 801م، أو183هجرية3. وثمة آراء تشير إلى أن وفاتها كانت في القدس سنة 135 هجريَّة4.
2- أهميّة رابعة في الفكر الإسلاميّ:
لا يمكن الكتابة عن أفكار رابعة العدوية دون الرجوع إلى الواقع المَعيش آنذاك، فقد شهدت البصرة وقتئذ الترف والحياة المادية بكل مظاهرهما، وفي الوقت نفسه كانت هناك حركة نشطة للزهد، وتأسيس مجالس العلم توازي هذا التطور، ولا سيما على يد رائدها الحسن البصريّ (642-728م)5. لقد أسّس حسن البصريّ منهجاً وفكراً في الزهد، مثَّلا البراعم الأولى لتأسيس مدرسة ترسّخت أسسها بمضي السنين. إن الفاصل الزمنيّ بين حياة حسن البصريّ ورابعة العدوية، بناءً على تواريخ ميلادهم ووفياتهم، يقارب العشر سنوات، وليس هذا بالزمن الكبير في تاريخ تطوّر الفكر في بيئة ما. وبناءً على هذه المعطيات، فقد أشارت الرّوايات إلى سبب التوجُّه الفكريّ نحو الزهد عند رابعة العدوية، بأنّه كان بداية توبتها عن المحرَّمات والملذّات التي عاشتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوثائق التاريخية لا تقدِّم إلا النزر اليسير عن هذه الحياة قبل التوبة6، ومع ذلك نجد أنّ من كتبوا عن علاقة رابعة العدوية بالحسن البصري لم يستبعدوا فكرة حدوث لقاء بينهما، أو إمكانيَّة حضورها مجلسه7. ولم تضع رابعة العدوية أفكارها في كتب نسَبتها لنفسها، بل إن ما وصلنا عنها هو شذرات من هنا وهناك، من محبّيها ومبغضيها، وهذه الشذرات أغلبها شعريّة وأخرى نثريّة. فالاعتماد الرئيس في معرفتنا بأفكار رابعة العدويّة يرجع إلى المصدر الأوَّل، وهو الشّاعر الصّوفي فريد الدّين العطار المولود في إيران (1145-1221م)، وتجلى ذلك في كتابه “تذكرة الأولياء”8. ومن المُلاحظ أن الفاصل الزمنيّ بين رابعة والعطّار يتعدى340 سنة، وهو فاصل زمنيّ كبير، ويبقى الاعتماد عليه موضعَ جدل، ولا سيما فيما يتعلَّق بمدى صحة الأشعار المنسوبة إلى رابعة العدوية، والمذكورة لدى العطّار.
العرفان كلمة مشتقة من “عرف”، ومن ثَمَّ فهي مشتقة من “المعرفة”، والقصد هنا في مصدر المعرفة. فالمعرفة المتعارف عليها، منها الحسيّ ومنها العقليّ (علم الكلام والفلسفة) ومنها البلاغيّ ومنها الوجدانيّ الحدسيّ، وكذلك الكشف والإلهام الرمزيّ والمعنويّ والحضور الكليّ
إن ما يُميّز الشعر الصوفيّ عامَّةً هو التوجُّه إلى المعشوق الواحد الأوحد وهو الله. وتتفاوت قوّة التعابير اللُغويَّة الممزوجة بهذا التوجُّه من شاعر صوفيٍّ إلى آخر. إنّه العشق الإلهيّ الَّذي ألغى الحدود بين العاشق والمعشوق، حتى وصل بعضهم إلى القول بمرحلة الفناء والاتحاد بالمعشوق. وهنا تقف العبارات اللُغويّة عاجزةً عن صياغة هذه المشاعر، مستسلمةً أمام الطاقة الروحيّة في حضرة “أحد أحد”. فإحدى وظائف اللُغة التعبيرُ عن الفكر والمشاعر من أجل التواصل مع “الأنا” أو مع “الآخر”، وعندما تنعدم هذه الوظيفة تتوقَّف اللُغة على عتبات الذات منتظرة رجوعها من عالم الفناء في المعشوق إلى دائرة الأنا والآخر، ثم إلى الصحوة، ثم إلى الحياة الطبيعيّة، مصطحبة معها نشوة ما عايشته في ذلك العالم، ولا تستطيع إخفاء ذلك؛ لكونه مصحوباً بلذّة الألم وألم اللذّة، لذّة الفناء وألم الصحو بعد الفناء وألم الشوق لتجربة الرجوع إلى الفناء مرّة تلو المرة. هذه المُعايشة الروحيّة عبَّر عنها أصحاب التصوُّف بعبارات عديدة في مراحلها المختلفة، منها: شوق وجذب، وخلوة وجلوة، وتحلية وفناء. تعابير صقلتها تجارب من عاينوها وهي لم تكن حاضرة في زمن رابعة العدويّة. ولكن في تحليل وشرح أشعار رابعة يمكن استعارة هذه المصطلحات من أجل فهم أعمق لها.
3- عرفان رابعة العدويّة: تعريف مختصر
العرفان كلمة مشتقة من “عرف”، ومن ثَمَّ فهي مشتقة من “المعرفة”، والقصد هنا في مصدر المعرفة. فالمعرفة المتعارف عليها، منها الحسيّ ومنها العقليّ (علم الكلام والفلسفة) ومنها البلاغيّ ومنها الوجدانيّ الحدسيّ، وكذلك الكشف والإلهام الرمزيّ والمعنويّ والحضور الكليّ. لم يكن مصطلح العرفان معروفاً في بداية الإسلام ولا حتّى في زمن التابعين، وإنّما نجده حاضراً في أدبيات المتصوّفين المتأخرين9. فذو النونِ المِصريُّ (ت. 245ه) يُصنِّف المعرفة إلى ثلاثة أنواع: معرفة التوحيد، وهي خاصة بعامَّة المؤمنين، ومعرفة الحجّة والبيان، وهي خاصة بالحكماء والبلغاء، والثالثة معرفة صفات الوحدانيّة، وهي لِولاية أهل الله المخلصين10. ونجد أنَّ القُشيريّ (ت.1072م)، خطا الخطوة الأولى في إعطاء كلمة المعرفة الذوقيّة الكشفيّة دَلالتها التي نُصنِّفها تحت “العرفان”. وقد اعتمد في ذلك على تفسير آيات القرآن الكريم بطريقته الخاصة، وذلك ضمن كلمة “اليقين”. فقد ذكر القرآن كلمة اليقين مرة كـ “حقّ اليقين” (سورة الواقعة، الآية: 95) و”علم اليقين” (سورة التكاثر، الآية: 5) و”عين اليقين” (سورة التكاثر، الآية: 7). وقد وظَّف القُشيريُّ كلمة اليقين على أنها إضافة لتعريف للعلم وللحقّ وللعين من أجل بناء– من حيث القصد أو عدم القصد- منهج معرفيّ جديد لم يكن مؤسَّساً في الثقافة العربيّة الإسلاميّة حتّى هذه المرحلة، فعلم اليقين: ما كان بشرط البرهان، وهو لأصحاب العقول. وعين اليقين: ما كان بحكم البيان، وهو لأصحاب العلوم. وحقّ اليقين: ما كان بنعت العيان، وهو لأصحاب المعارف. وسار هذا التّصنيف في أدبيّات المتصوّفة بعد ذلك، ونحتها في جميع شواهده البلاغيّة والمعرفيّة، حتى وصلت ذروته مع السهرورديّ (1154-1191م)، بإطلاقه على المعرفة العيانية مُصطلحاً خاصّاً سَمّاه “الإشراق”11.
مِن الناحية النظريّة المعرفيّة يمكن القول إن الحسّ والعقل حسب العرفانيّين يبقى حكمهما وإنتاج معارفهما أموراً ظَنِّيَّة وربّما غير صحيحة؛ ولهذا لا يمكن الاعتماد عليها. فقط الكشف والإشراق هما الطريقان الصحيحان للمعرفة “الذَّوقيّة” المحصورة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
ولكن هذه المعرفة الذوقيّة ليست معرفة رياضيّة صوريّة وإنّما معرفة مُتلازمة بشعور ما يلازمها، وهو شعور كان حاضراً في أشعار العارفين بالله، ولم يكن لهم إطار آخر للتعبير عن ذلك إلا من خلال الشعر وشذرات نسمّيها شطحات، ولهذا لا يمكن أن يفهمها إلا من يتذوّقها، وتبقى مبهمة لمن لم يتشرَّب من أصولها ووارداتها ووِردِها. ولا عَجَب أن يصبح العارف العِرفانيّ محطَّ شُبهة تارة، وتارة أخرى محلَّ تقديس. إن هذا التمازج بين الشعور الذوقيّ والتصوُّر العرفانيّ اللُغوي جعل العِرفانيّين حسب “مُشاهداتهم وشهودهم” يعرفون حقائق الأمور الحياتيّة على أنها ليست سوى وهم أو حياة عابرة لا قيمة لها، وعليهم أن يسعَوا بالارتقاء في مجاهداتهم من خلالها ومن خلال إغراءاتها إلى مراتب الأولياء والأصفياء.
إن كلَّ ما ذكرناه حتّى الآن ينطبق على أهل العرفان، ومنهم رابعة العدويّة التي جدّدت نموذجاً يمكن القول عنه إنّه العرفان الفطريّ البسيط في صياغته اللُغوية، الَّذي ينبع من مشاعر آنيّة واردة، ليست ذات صياغة فلسفيّة أو كلاميّة كما نجدها عند المتأخِّرين، ومنهم ابن العربيّ الصّوفيّ.
إنّها لحظة الوعي الإشراقيّ الَّذي حلّ بها على حين غفلة، فأيقظها من غفوتها وهيامها في مَلذّات الحياة وآثامها، وليس غريباً بعد الَّذي ذكرناه أعلاه عن العرفان أن تجد رابعة نفسها في هذه اللحظة من الكَبوة بعد الغفلة في حالة “اغتراب”، اغتراب عن ذاتها التي عشقت الماديّة في الحياة، واغتراب عن كلِّ ما يحيط بها من مكوِّنات اجتماعيّة وثقافيّة، وهي حالة تُدخل صاحبها في خَلوة مع نفسه ومع ربه، وهكذا أصبح حالها وهكذا بقيت حتّى وفاتها. عرفتْ نفسها فعرفت ربّها، إنّها فلسفة العرفان “مَن عرَف نفسه عرَف ربَّه”. معرفة النّفس تؤدّي إلى تهذيبها وتجريدها وارتقائها وصفائها، ثمّ إلى فنائها بما تُعطى وتعشق. حال العارفين هذا حال رابعة العدوية، وهو ليس الهرَب من الواقع كما يحلو لبعض الباحثين نعت العارفين بذلك، بل هو مجابهة الواقع بماديّته وترويضه بتعويض النفس “الأمّارة بالسوء”، ومن ثم هو التّعالي عليه والارتقاء عنه إلى مراتب واقعيّة غير مادية، ولكنها معنويّة ذوقيّة. وخلاصة القول في هذا الأمر أن تجسيد فكرة الإنسان الكامل، الَّذي هو من “أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”12.
4- الفكر العِرفانيّ في شِعر رابعة العدويّة:
بما أنّ رابعة العدويّة ليس لها ديوان شعري، وليس لها أيّ تصنيف أو تأليف، ولكن لها ـــ كما ذُكر سابقاً ـــ شذراتٌ متفرّقة جُمعت، سنعرض أبياتاً من شعرها ونستخلص بعضاً من أفكارها العرفانيّة. ومن أشعارها في إحدى قصائدها التي تصف حُبَّ الخالق تقول13:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبي عمّن سِواك
كما أن للعشق حالات ومراتب ومقامات، فإن إغلاق القلب عمّن سوى الله هي عمليّة إراديّة تتطلَّب عزيمة وإرادة جبّارة، وهي ليست حالة زمنيّة آنيّة، بل مقامٌ عليٌّ ثابت. فهذا الوجود بكلّ مُغرِياته لم يعد يملأ قلب رابعة، ولم يعد قادراً على إطفاء حرارة الشوق للقاء المعشوق الأوحد، وما هو بلقاء بين حبيبين هو وهي، بل لقاء انصهار في مقام هو. ولم يعد للأنا قيمة وجوديّة، ولا حتى اعتباريّة؛ ولهذا نجدها تقول إنها لم تعرف الهوى إلا بعد أن ذاقت طعم القرب منه. الهوى هنا ليس سوى تعبير، لا بديل له لدى رابعة، للتعبير عن هذه الحالة التي أصبحت مقاماً؛ لأن المصطلحات المتعارف عليها في عالم الكون والفساد، مثل الهوى والحب، لا تصل إلى قيمة هذه المقامات الروحيّة أو تتعدّاها إلى المقامات الشُّهوديّة، وهي مقام الفناء المطلق بالمعشوق الأوحد.
ومن الرواية القائلة إن نظمَها للشِّعر بدأ بعد شغفها بالموسيقى واحترافها العزف على الناي، نستشهد بالأبيات التالية14:
يا ســروري ومُنيَتي وعمادي وأنيســــي وعُدّتي ومـــــرادي
أنت روح الفؤاد، أنت رجائي أنت لي مُؤنسٌ، وشوقُك زادي
أنت لولاك يا حياتي وأُنســي ما تشـتتُّ في فســـيح البــــلاد
كم بدت مِنّة، وكم لك عنـدي مــــــــن عَطاءٍ ونِعمــة وأيــاد
حبُّك الآن بغيتــي ونعيمـي وجلاءٌ لعيـن قلبــي الصـادي
وسنركز هنا على تحليل البيت الأول فقط في محاولة لاستخلاص أفكار عرفانيّة، عرفتها رابعة وعايشتها: يا سروري ومنيتي وعمادي وأنيسي وعُدَّتي ومرادي
من خلال هذا البيت نستشفُّ بعض مقامات العشق الإلهي التي عبرت عنها رابعة استناداً إلى تجرِبتها الفريدة، فلكلِّ عاشق عرفانيّ مقاماته، وذلك حسب تجربته. ومقامات العشق الإلهي هنا: مقام الأُنس، مقام العزة، ومقام المراد.
والسؤال: كيف يمكننا فهم هذه المقامات؟
بالطبع لا يمكن فهم هذه المقامات كما عاينتها رابعة، ولكن يمكننا أن نقوم بمقاربة معرفيّة لفهمها بناءً على ما تداوله بعض العِرفانيّين، وعلى محاولتهم تقريبها لأفهام العامّة. فَلو رجعنا إلى المقام الأوّل الَّذي شرحه العلامة ابن قيم الجوزيّة، فنراه يقول: “ومن علامات صحّة القلب، ألَّا يفتر عن ذكر ربّه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بما دلّ عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر”15. فهي حالة دوام الاتصال والتواصل بالمعشوق، فكلُّ “ذِكْر” له وبه تعبير عن قوّة نشوة القرب منه ولقائه وإلقائه في حضرته. وربّما كان ذلك من المقامات التي هي من أصول الإحسان، الَّذي هو العنوان الثالث للإسلام بعد: أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ومن ثم الإحسان. وقد اختص العرفانيّون بالركن الثالث بعد إتمامهم للأول والثاني، وذلك بإخلاصٍ منقطع النظير، (ما في الجبة إلا الله). هذا المقام هو مقام “حيثما وليت وجهَكَ فثَمَّ وجهُ الله”، فأينما نظر الحبيب من حوله لا يرى إلا محبوبه، فكلّ وجود هو ليلى. إنّه مقام “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”16. إنّه مقام المشاهدة القلبيّة لمعشوقه، مشاهدة لا يعرف حلاوتها إلا من تذوَّقها، ولهذا كم صبر هؤلاء على اتهامهم بأنَّهم كفروا وتزندقوا أو أصابهم الجنون. وكلّ هذا لم يثنهم عن مواصلة الإخلاص لمعشوقهم. ولهذا كان المعشوقُ روحَ الفؤاد وليس الفؤاد، بل هو الطّاقة النورانية الكامنة فيه، فلولاه ما نبض ولا نطق ولا اشتاق ولا عشق، وكيف وهو رجاؤها الَّذي لا حد له بها ولها، وكلما زادت هذه الطاقة النورانية، طاقة العشق والمدد الإلهي، زاد شوقها له، فلا حدّ له، لأن قلبها لا ينبِض إلا به وله. أمّا مقام العُدَّة فهو الزاد الروحيّ، أي المدد الغيبيّ الحضوريّ، تفعيلات نورانية لملكات روحيّة غير مفعلة، تأتي مع الإنسان عند ولادته، جعلها المعشوق لدى البعض من الناس ممَّن أودع بهم عشقه في عالم الذَّرِّ الأول، وعرّفهم فعرفوه هناك، وكشف لهم مقام الاسم “الله الله، أنت أنت، هو هو”، وأخلصهم بالاسم الثالث دون غيرهم. إنّه مقام الاجتباء والجعل، من ناله نال سعادة الدارين.
الهوى هنا ليس سوى تعبير، لا بديل له لدى رابعة، للتعبير عن هذه الحالة التي أصبحت مقاماً؛ لأن المصطلحات المتعارف عليها في عالم الكون والفساد، مثل الهوى والحب، لا تصل إلى قيمة هذه المقامات الروحيّة أو تتعدّاها إلى المقامات الشُّهوديّة، وهي مقام الفناء المطلق بالمعشوق الأوحد
ومقام العُدّة والإعداد لا يتمّ تفعيله إلا بالمدد الروحاني، أو كما ذكرت الآية: “كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً”17. ولم يحدد الله كمية العطاء وشدّته وقوّته ونورانيّته: “وما كان عطاء ربك محظوراً”. عطاءٌ ومددٌ غير محدودين، وهما زاد المُريد، والعاشق لله. وهنا لا بد أن نُشير إلى أنّ ثمةَ مُريداً يسير في طريقه إلى الله، وثمة مُريد يجتبيه ربه ويصطفيه ويجعله من أوليائه قبل خلق الخلق، وهو مقام الأنبياء والأولياء من خلق الله. ورابعة في لحظة من حياتها فعّل ربّها ملكاتها الروحية، ولا بدّ لها من مدد روحي، فلولاه ما تواصلت مع معشوقها، ولبقيت في عالم الفَناء والمادة، لا إلى هذا ولا إلى ذاك، ما بين عالم الكون والفساد. ولكلّ عارف مدد خاصّ به حسب إمكانياته ومرتبته الذوقيّة العِرفانيّة. إنّها الطاقة النورانية التي تضيء قلب العاشق دون توقّف، وبها يرى المشاهداتِ القلبيّةَ والوارداتِ الملكوتيّةَ. شعلةٌ إمّا أن تضيء لصاحبها الطريق وينعم بدفء القرب منها وإما أن تُحرقه، وكلٌّ حسب استعداده الروحي. ولهذا فلا ضير إن ذكرت رابعة أنّه لولاك يا حياتي وأُنسي ما تشتَّتُّ في فسيح البلاد. فهي بهذا تعبر عن حالة شعوريّة روحيّة نورانيّة نتيجة لهذا المدد، فلا تستطيع بتكوينها الماديّ أن تتحمّله وتحمل أثقاله، فتَهيم في البلاد من أجل تفريغ هذه الشحنات النورانيّة الواردة. ولكنها ما زالت قوية واعية في تكوينها الرُّوحي والروحانيّ والعقليّ. وبهذا وصلت إلى القناعة التامة بأنّه لا حول ولا قوّة إلا بالله، مقام الإخلاص والعبوديّة التي بها تمام وكمال سعادتها.
أمّا مقام المراد، فمن المتعارف عليه في الطرق الصّوفية والعرفانية أن التّقرب إلى الله يكون بالعبادات المفروضة والنوافل والمعاملات حسب الشرع من حلال وحرام، وهذا هو طريق أغلب الناس إلى الله، ومنهم من زاد على ذلك بالعمل بمبدأ الإحسان كما شرحناه أعلاه. ومن أهل الإحسان مَن زاد على ذلك بأنْ جعل كلّ ذلك مسلكاً دائماً مُلازماً له في حركاته وسكناته، فاتّخذ من ذلك المسلك سلوكاً إلى الله، وهو الطريق الَّذي هو بحاجة إلى دليل ومُرشد؛ لأن هذا الطّريق محفوف بفتنة النفس والأنا، وفتنة الشيطان، وفتنة الجاه والمال إلخ، فكان لا بدّ من مرشد ومعلّم يوجه ويحفظ ويأمن الطريق وأهل الطريق من هذه الأخطار. وهنا يأتي مقام المريد الَّذي يجعل إرادته تحت إرادة شيخه التي هي بدورها تحت إرادة رسول الله “واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ”18. فمَن تمسَّك بهذا الطريق عصَمه اللهُ بمقدار طواعيّة إرادته من الانحراف والفتن، وهذا المقام فيه أغلب مُريدي التصوُّف العِرفاني، ووِردُهم من شيخ طريقتهم هو الطّاقة المُتصلة بهم وبرسول الله، ومن ثم بالله، وهو طريق الكسب العرفاني. أما المراد فهو من باب قول الله: “يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَه”19، أي: لا اختيار لهؤلاء في أنّهم يُحبّون الله، بل هو الَّذي جعلهم يُحبّونه دون إرادتهم، فإرادتهم في حُبّهم للهِ مَجبولة على حُبّهم له، وهو الاصطفاء لبعض عباده، والاصطفاء أيضاً له مراتبه. وهو مَقامٌ جُعل لرابعة العدويّة، إلا أنّه تأخر عن تفاعله معها لأسباب يضيق البحث هنا عن مناقشتها. فَحُبُّها له، وهو مُرادها ليس باختيارها، بل باختياره هو لها؛ لأنّها تَخَلَّتْ عمّن سِواه في حُبّها وانشغالها، فكان هو المراد “المُنصهرة روحيًّا بنوره”20، بِعشقها له، فليس بينهما مانع أو حاجز، بل ليس لها الوصول إلى مُرادها بأيّ وسيلة من شيخ ٍأو “دليل”ٍ21؛ لأن الله هو من أرادها دون من هو دونه!
وهذا المقام وُهب للنبيّ موسى عليه السّلام بقول الله له: “ولِتُصنَعَ عَلى عَيني”22، وكذلك قول الله له في الآية نفسها: “وألقَيْتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي”. بالطبع ليست رابعة بمرتبة النبيّ موسى، لكننا نستشفّ من خلال شِعرها أنّها كانت في مقام الاصطفاء والجعل. ومن هذا المقام أختم بقولي إن محاولة فهم هؤلاء الأولياء تبقى محاولة تقريبيّة للفهم، وإنّ شرح ما تبقّى من أشعار رابعة العدويّة على منهج العرفان ما زال بحاجة إلى جهدٍ كبيرٍ.
5- خلاصة
بناء على ما تَقدَّم يمكن القول بأنَّ رابعة العدوية تُعدُّ من أوائل الذين وضعوا اللَبِنات الأولى للعِرفان العمليّ أو الصوفيّ الَّذي هو سابق للعرفان النظريّ الفلسفيّ. ويمكن أن يُطلق عليه العرفان الفِطريّ الَّذي ينطلق من المُعايشة والمُعاينة التَّجريبيّة المَشحونة بالعشق الإلهيّ، وما كان لأفكارها المَعيشة أحياناً إلا أن تُصاغ بلغة صُوريّة رمزيّة؛ لأن العاشق الفاني في محبوبه إن أراد أن يُعبّر عن مشاعره لا تسعفه غالباً التعابير اللُغوية التي هي بالأساس معقلنة؛ فإمّا أن تبقى سرّاً يكتمه العاشق أو رمزاً يتلفّظ به، وهذا حال شعر رابعة العدويّة وتجرِبتها، بين الرمز والسرّ. وبناء عليه اختلف مَن حاول فهمها بين مُحبٍّ وممتنع ٍفي الحكم عليها، ومنهم من حاول الانتقاص منها ومن انتمائها للإسلام.
١- لمزيد من المعلومات انظر: عبد المنظم الحفني، رابعة العدوية، إمامة العاشقين المحزونين، دار الرشاد القاهرة، الطبعة الثانية 1996، ص 13-14) (دراسات في تاريخ التصوف الإسلامي، د. جمال الدين فالح الكيلاني، مكتبة الزنبقة، القاهرة 2014 ص 76- دراسات في تاريخ التصوف الاسلامي، د. جمال الدين فالح الكيلاني، مكتبة الزنبقة، القاهرة 2014.
٢- الزركلي في أعلامه ينسبها باسمها الثلاثي رابعة بنت إسماعيل العدوية من أهل البصرة المتوفاة سنة 135 هـ.
٣- Sophia Pandya, Rabia al Adawiyya.In: Juan Eduardo Campo: Encyclopaedia of Islam, NY 2009, S.578f
٤- قيل إن قبرها بظاهر القدس على رأس جبل يسمى الطور أو طور زيتا، وهذا كان رأي ابن خلكان، وابن شاكر الكتبي في كتابه “عيون التواريخ”، والمقدسي في كتابه “مثير الغرام”، والسيوطي في “إحياء فضائل أهل البيت”.
٥-Al-Hasan al-Basri, in: Encyclopaedia of Islam, THREE, Heraus. von: Kate Fleet, Onlineabgerufen am 09 June 2023<http://dx.doi.org/10.1163/1573, Erste Druckedition: 9789004335707, 2017,2017-1
٦- عبد الرحمن بدوي: شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، مكتبة النهضة المصرية، ط 2، 1962، ص 6.
٧- المرجع السابق، ص 18.
٨- المرجع السابق ص 7-11.
٩- محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي (2)، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، بيروت 1992، ص 251.
١٠- المرجع السابق.
١١- المرجع السابق ص 251-252.
١٢- سورة يونس، الآية 62.
١٣- المرجع السابق.
١٤- عبد الرحمن بدوي، المصدر السابق ص 24.
١٥- ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ص72، (نقلاً عن المرجع السابق).
١٦- صحيح البخاري، الحديث رقم 4777.
١٧- سورة الإسراء، الآية 20.
١٨- سورة المائدة، الآية 67.
١٩- سورة المائدة، الآية 54.
٢٠- بتصرف من المحرر.
٢١- مُحيِي الدّين بن عربي: الفتوحات المكيّة، السِّفْر الثالث، الفقرة الأولى “ومَن طلبَ الطّريقَ بلا دليلٍ إلهيٍّ، لقد طلب محالا”. بتصرف من المحرر.
٢٢- سورة طه، الآية 39.
د. نزار غرّة
باحث وكاتب من أصل فلسطيني، مقيم في ألمانيا، ومترجم محلَّف للّغة الألمانية، درس الفلسفة الإسلامية، وعلم الأخلاق، وتاريخ الفن في جامعتي حيفا، وهايدلبرغ، وعمل مدرساً في ثانويّة ماكس بلانك في لودفيغسهافن.