خلال البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الكتاب العربي الأول في برلين، الذي نظمه الديوان، البيت الثقافي العربي، كان اجتماعنا الأول، تحت سقف خيمة المجلس الجميلة التي نُصبت في حديقة الديوان، وعلى منصّة الحوار الذي شمل عدداً من الكاتبات لتوقيع آخر إصداراتهنّ، توسطتنا نخلة من نخلات الدوحة الباسقات، وقدّمتْ كتابها بطريقة مشوِّقة، وأهدتني نسخة منه.
وجدتُ فيه مسيرة حافلة بالصمود والمثابرة والدخول في حقلِ شائكِ مهّدته بخطواتها المسنودة بمؤسّسات بلدها كما جاء في متن الكتاب بدءاً من أوّل خطوة نحو آفاق المعارف. كنت متشوقة للتعرف إليها وإلى مسيرتها المهنية والإبداعية، ولأني كتبت أجزاءً من سيرتي فإني أدرك كم يتطلب الأمر من جسارة لتكتب امرأة عن نفسها، فكتابة السيرة الذاتية الإبداعية ليس بالأمر السهل، واتخاذ مثل هذا القرار تحد كبير، ويحتاج إلى الكثير من الشجاعة.
كتاب “حين يبوح النّخيل”1، الصّادر في الدوحة عام 2022م، العام الذي غيّر فيه فيروس صغير العالم ومنح الكاتبة الدكتورة هدى النعيمي أن تكسب كلّ دقيقة في الكتابة والتخطيط، واستثمار الوقت، الذي كان عاملاً مفصليّاً في كل مسيرتها العلمية والأدبية. تُعدّ هذه السيرة من أوائل السير التي نشرتها امرأة قطرية، وهذا محفّز للعديد من القطريات لينسجن حكاياتهن وليكتبن سيرهن، ويفتحن الأدراج ويخرجن المكتوب إلى الضوء. هذا ما فعلته الكاتبة هنا، حين جعلت بوح النخيل يجوز الفيفاء، والسهل، والجبل، والماء، ما بين الدوحة وفيينا، ويتخلل مسام الحكايات لنساء في السودان أنتمي إليهنّ كما أنتمي إلى النساء النَّخْلات.
سيرة وسياقات
السّيرة النّاجحة هي التي تُكتب في سياقاتها المجتمعيّة وتكون قادرة على تحفيز نخيلها ليفوح ويرنو بظلّه للبعيد، إذ استطاعت سيرة الكاتبة حملي على أجنحة الحنين -من مكاني في فيينا حيث لا يبعد عني بيت النخيل في قصر “الشنبرون” كثيراً- لأطوي المدى إلى السودان، فالدوحة، فرأيتنا طفلات نلعب، ونلهو، ثمّ نخطو ابتداراً إلى دروبِ التّعلُّم. نجحت الكاتبة في توثيق الوشائج مع صوت بلادها الذي تبرعم في اختلاجاتها منذ برقَ ذكاؤها في شعاب المعرفة، فتقول: “ويرى وفد بلادي أنّ التعديل المقترح من شأنه أن يجعل اتفاقيّة استخدام الزئبق ومشتقاته، ووسائل التخلص من مخلفاته، غير قابلة للتطبيق على نطاق عالمي واسع (…)”2. بهذه الكلمات ابتدرت سيرتها، رافعة بها صوتها في قاعة المؤتمر الخاص بالأمم المتحدة بالعاصمة الكينية نيروبي، كان هو نفسه، صوت تلك الطفلة الذي أزهر رطباً في دوحة النخيل، وليشرئب إلى العالم البعيد .. حيث مثّلتْ بلادها في المنصّات الأمميّة.
وهي الطفلة ذاتها، الّتي تُتابع بشغفٍ تدحرج كرة الزئبق على طاولة المختبر، الكرة الصغيرة، رافقت الصغيرة في كلّ خطواتها، منذ ارتفعتْ حُمَّتُها والممرضة تقيس الحرارة. هكذا تأخذنا الكاتبة في عوالم طفولتها في حي الرّيان، إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، والاستعداد للمدرسة، ودور الأمهات في إعدادها، وقد أعدنَ فعلاً مدرسة. طفولة بدأت باكتشافاتها المُبهجة، كصُنع وشيعة الكهرباء، وعقلها الغض يكلّ عن إدراك كُنهِ الكهرباء. الطفلة التي أخذتنا إلى عوالم فيها الكثير من التفاصيل الحياتية لها الشغف ذاته بالمعرفة منذ الدخول إلى بوّابة المدرسة، طفولة الكاتبة أعادتني إلى طفولتي وكنتُ أراني بين السطور، بشرائط بيضاء هي ذات الشرائط التي زيّنتْ ضفائر الطفلة التي كبرتْ وتخصّصتْ في الفيزياء الإشعاعية كأوّل قطرية تتخصّص في هذا المجال العلمي وترأستْ إدارة هذا القسم بمؤسّسة حمد الطبية، هي ذات الطفلة التي فضّلت الآن التفرّغ بعد أنْ مهّدت الطريق إلى أخريات في ذات المجال. تفاصيل الخطوات الأولى للتعلم وطَرْق أبواب المعرفة مؤشّر على تطوّر التعليم في قطر، حيث نهلت الكاتبة علومها الأولى. أذكر في هذا السياق أنّي قمتُ في عام 2005 بزيارة علمية مع طلابي وطالباتي إلى الدوحة، وذلك حين كنتُ أعمل محاضرة غير متفرغة بكلية العلوم السياسية بجامعة فيينا، تحت شعار (نحن والآخر) في إطار سيمنار يقارن بين التغطية الإعلامية بقنوات أوروبية وقناة الجزيرة عن الحرب على الشعب العراقي. قمت بإجراء استبيان قبلي عن صورهم الذهنية عن قطر، فأثبتت إجاباتهم الكثير من الصور النمطية عن قطر والنساء فيها خاصة. كانت إحدى الطالبات تحمل فَرشاً، وحين سألتها عنه، أجابت: “لتنام عليه في الصحراء”. وكانت المفاجأة تقفز من عينيها حين وجدنا في مطار الدوحة شجرة عيد الميلاد مُزيّنة، وبنات قطر بكلية الآداب، يتمتّعنَ بمستوى معرفي وثقافي راقٍ، ويمتلكن القدرة لإثارة الحوار مع الآخر، وإرساخ قيم التسامح السامقة، والبحث عن كل مشترك إنساني. طاف هذا المشروع في ذهني مجدداً، حين أكملت سيرة الكاتبة هدى النعيميّ، وخطوات جيلها من النسوة الماجدات اللواتي نهلن من ينابيع المعرفة العذبة، ومسنودات بالدعم المعنوي والمادي غير المحدود من وطنهن. وتعكس السيرة مدى تطور التعليم وامتلاك بعض النساء لسيارتهن وتمثيلهن لبلادهن في المحافل الدولية كما باح به النخيل، ومؤشر إلى المستوى الذي وصلت إليه قطر في مصاف الدول المتطورة، التطور الذي يقاس بالمعرفة النقدية. “خليط من الجنسيات كان يحيط بنا، نتعلم منهم ويتعلمون منا وعنّا، فهؤلاء لم يكونوا يعرفون عن المجتمع القطري سوى الثوب الأبيض للرجل والعباءة السوداء للمرأة.
كانوا بعيدين كلّ البعد عما نحن عليه، فاقتربت منهم ومنهن بقلب منفتح ووعي بقضية الحدود الشائكة بيننا”3. وما تزال كرة الزئبق تتدحرج أمام الطفلة الصغيرة وقصيدة المتنبي العصماء تتردد في حصة اللغة العربية: “الخيل والليل والبيداء تعرفنيوالسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
وهما القرطاس والقلم، اللذان جعلا إذاعة المدرسة تتلو اسمها ضمن البنات الناجحات والجميع -يلتف حول المذياع في البيوت والمكاتب- وصوت عبد الحليم حافظ يدندن: “وحياة قلبي وأفراحه.. وهناه في مساه وصباحه.. ما لقيت فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه”. وقلب الصغيرة مفعم بفرحة النجاح الذي تلألأ في عينَيْ أمها التي كانت المدرسة الحقيقية التي أعدّتها لتكون جوهرة من كنوز البيوت القطرية؛ لتعود بالنفع على ذاتها وبلدها. تشدك الكاتبة متجوّلاً في أمكنة وأزمنة تتقاطع في مخيلتك وتعود بك إلى أيامك الأولى في دروب العلم، وذاك النزاع المألوف ما بين الاتجاهين المتاحين لمتابعة الدراسة العلمي والأدبي. فامتزج العلم بالأدب في مسيرة النخيل.
في رحاب جامعة قطر نهلت الكاتبة العلوم الأولى ونما ريش جناحيها لتحلّق لأجل الدراسات العليا في جمهورية مصر العربية. خطواتها الأولى في أروقة مستشفى حمد العام، حين كنّ خمس عشرة فتاة فقط في مقتبل البدايات، أليست هذه السيرة مرجعاً مهمّاً لمعرفة التغييرات الجذريّة التي حدثت في صفوف العلم والعمل في البلاد؟ البلاد التي شدت من أجنحتها محلقة لتعود إلى حيث النخلات الأولى في حي الريان؛ لترد بعض الجميل لبلادها كما فاح عرفانها وامتنانها نخيلاً.
بحور المعرفة وبدايات الوعي
“تعلّمت قبول الآخر كأحد دروس الحياة، وحفزني التنوع لقراءة المزيد عن الموحدين الدروز، والإسماعيليّة، والبهائيّة، والقاديانيّة، وغيرها، إنّها عوالم لم أكن أعيها، ووجدت نفسي أغوص في تفاصيلها حتى أرهقتني التفاصيل”4. ازدحم الكتاب بتجارب غنية ومتنوعة، منها القائم على التعرف إلى شعوب مختلفة، اقتربتْ منهم الكاتبة، لتعرفهم ويعرفوها، وهي تحمل بلادها كنخلة في القلب. تسافر بك عبر هذه السيرة إلى تلك البلاد، بدءاً بتفاصيل دراساتها العليا في جمهورية مصر العربية.
عوالم من النساء وحكاياتهن مثل وهيبة وأم سيد وأم ربيع، اللاتي كنّ يشرفنَ على سكن الطالبات الذي وفرته القنصلية الثقافية بالسفارة القطرية بالقاهرة. حكايات تشير إلى قدرة الكاتبة على الانفتاح على الآخر، وكل حكاية من هذه الحكايات يمكن استلهامها للكتابة، سيرة واقعية أو افتراضية انطلاقاً من كل القصص التي من الصعب فصلها عن سياق سيرة الكاتبة د. هدى النعيمي، وكأنّها تودّ أنْ تقول إنّها بمنزلة سفيرة لثقافتها العربية للإنسانية. تجعلك تسافر وتتجوّل معها بين أكوام الكتب والمراجع حول العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وهي عبر تلك الكرة الصغيرة التي ما زالت تتدحرج أمامها وتسحرها بامتزاج الألوان التي هي نفسها سيرة التنوع الكروي كتلك الكرة الصغيرة التي زيّنت حديقة حياة الكاتبة. “التجارب الأولى التي شكّلها تنميط مارك المهندس الألماني الذي كان مسؤولاً عن صيانة الأجهزة، كان ينظر إلينا جميعاً باستعلاء، لا يوجّه كلامه إلاّ إلى الطبيب المسؤول لافاندر. وسمعت لافاندر يقول له مرة، وقد تُرك باب المكتب مفتوحاً: هدى ستقوم بحساب هذه المعادلة. فرد عليه مارك: وهل تستطيع هذه الفتاة فك رموز المعادلة؟ هل تثق بها؟ فأجابه من دون تردّد نعم”5. هكذا كان الدرس، هو عدم الهروب من مواجهة التحدي، ليس تحدي المعادلة التي كانت سهلة عليها مقارنة بالمعادلات الأخرى، ولكنه تحدي إثبات الذات في مواجهة تنميط الآخر. الكثير من المعلومات التي تتعلق بالفيزياء الطبية، وببلاد مثل مونبليه، ورفقة الوالد المؤمن بقيمة العلم حيث كان عليها أن تنجز جزءاً من رسالتها للدارسات العليا، هناك تسافر بك الكاتبة في عوالم زينب الجزائرية، أسرة أستاذها الفرنسي الذي قدم لها ولوالدها الدعوة لتناول وجبة مع أسرته. عوالم الإنسانية التي تؤكدها السيرة بأن الإنسان هو الإنسان.
كما عَرَّجت السّيرة بِنا عَميقاً إلى الكويت، “الكويت حبيبتي” وعادت بِنا إلى أزمنة الحرب وغزو صدام لدولة الكويت وحالات الخوف والهلع الذي أصاب الناس. إنّها الحرب، رائحتها الكريهة تزكم الأمكنة. في متن السيرة إشارات إلى سيرة الأجداد وتقنياتهم في تجفيف المواد الغذائية والاستفادة منها في زمن الحرب على الكويت. ثمّ إنها عكست في السيرة دور الفنون وصوت الفنان عبد الله رويشد وهو يغني “اللهم لا اعتراض اللهم لا اعتراض”، التي كتبها الشّاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي (1938-2015). وترسخ الكاتبة في الوجدان قيم المناصرة بين الشعوب، وتجعلك تعيش شهوراً من القلق والترقب حين بدأ الغزو الأمريكي على العراق في السادس عشر من يناير من العام 2003، بحجة واهية لم تكن هي الدافع الحقيقي للحرب. فالشعوب قادرة على حل معضلاتها بعيداً عن صورايخ قادمة من المحيط البعيد، وهي الأسئلة العاصفة الّتي تَأخذك نَحو أسئلة الثَّروة والسُّلطة والصِّراع حولها عالميّاً، “(فـ) الرئيس الأمريكي أثبتَ لشعبه أنّه شرطي العالم وأنّ العصا لمن عصى”6. وما زال هذا الجانب من السيرة يأخذنا حيث اعتذر صدام للكويت عن تهوّره وسوف يعصف السؤال بكلّ من يقرأ هذه السيرة: هل تعتذر أمريكا عمّا فعلته بالشعوب الأخرى لأجل مصالحها؟
التعاطف الكبير مع شعب الكويت، هو التعاطف نفسه، والتضامن مع الشعب العراقي حين واجه محنة الغزو الأمريكي، هكذا ترفض الكاتبة الحرب وتثبت موقفها المبدئي انحيازاً للسّلام الّذي تربّت على قيمه في حي الرَّيان، وسط النَّخيل، ولآلىء الخليج. سيرة ليست برؤية عالم الجغرافيا بطليموس بل برؤية امرأة قطريّة، وُلدت وترعرعت وشبّت عَن الطَّوقِ بين حي الرّيان، ومنطقة الدحيل، ومدينة خليفة التعليمية، وهذا نفسه محفّز لمعرفة التحديثات التي عمّرتْ أحياء الدوحة.
وحفِلت السيرة بحكايات من مصر إبّان فترة الدّراسات العليا، وتجد الاحتفاء بتلك الذكريات وبأهل مصر حاضراً، وكأنّما تُحرّضك على تَذكُّرِ المَعنى الوارد في القرآن حول مصر بِوصفها بلد الأمان، “ادْخُلُوْها بِسَلامٍ آمِنِينَ”7، وعبر بوابة الصّداقة، وتذكرُ الكاتبة رفيقتها مي فراج، وتفاصيل حياة الرفقة، حيث النساء يكنّ مرايا لبلادهن. وعن تلك الأمسيات والندوات الأدبيّة، وعن شارع دمشق رقم تسعة في جادة المهندسين، حيث وجدت الكاتبة نفسها بين زهرة، وزكية، وكلثم، رائدات الكتابة الأدبية النسوية في قطر، أو كما أطلقتْ الكاتبة عليهنّ “زهرات الكتابة”. فشدّتْ لديَّ ضَفائِر التَّشوّق لِقراءة نِتاجهنَّ الأدبيّ تِباعاً. سيرةٌ زاخرةٌ بكمٍّ هائلٍ مِن المعارف في ضروب مختلفة وكأنّما الكاتبة تحقّق حلمها الأوّل وهي تتنازع بين المساق العلميّ والأدبيّ فَجمعتْ بين الاثنين. وتَجعلكُ الكاتبة تُصغي باهتمام إلى المحاضرة التي قدّمتها لطلبة جامعة عين شمس بعنوان “نظرة على الأدب القطري”. ثُمَّ إنَّ تَفاصيل السَّرد لا تنفصل عَن هُموم سَلوى المُشرفة عَلى سَكن الطّالبات القطريات، سَلوى الّتي تُحفّزك حكايتها أنْ تكون رواية موازية داخل السيرة الذاتية للكاتبة هدى النعيمي. هذه الأنسنة في السيرة حيث من الصعب فصل حكايات الناس أينما كانوا وأينما تقاطعت دروبهم مع الكاتبة تجدهم في تمام صحوها وإنتباهاتها الذكية. وَفِي بِيتِ الطّالبات تُرهف نِياط القلب للأُغنيات الخليجيّة، إنّه الحَنين الّذي يَفوحُ نَخيلاً، وذكريات ضَجّتْ بِها تفاصيل السّيرة. وهذا الحنين لم يمنعهنّ من الاستماع إلى المُطربة أمّ كلثوم أو للداعية زينب الغزالي. وهو الحنين ذاته ومعناه الّذي خَبرتُه كذلك بنفسي في اغترابي في فيينا، حيث بيت النَّخيل النَّمساوي.8
ثُمَّ بعدَ عَودة الكاتبة إلى قطر تَغير الكثير وهذا ما تطرّقتْ إليه في سِيرتها، وهذه دلالة أخرى تؤكّد على أنّ سِيرتها جاءت في سِياق بلدها ولم تفصلها عنه، وكانت تؤكّد هذا على مدار فصول الكتاب. كما أننا في السّيرة نَتَتَبع تَطور مَلامح حِراك التَّمدن في المُجتمع القطريّ على كل المُستويات، فتمَّ الاحتفاء بِقيادة المَرأة للسيارة في العام 1998م، والإشارة إلى نَيل النِّساء لِحقّ التّرشيح والانتخاب ووصول المرأة إلى مناصب إداريّة، “تشغلها بلا قيود وبلا انتقادات اجتماعية”9.
في مُجابهة سَرطان الثَّديّ
هَذا الفصلُ مِن السّيرةِ، مَلأ جَوانِح الرُّوح بسَحابات الأسى، وأدمى الفؤاد بوجع المُعاناة، وَمَشاعِر بِالكاد تَصبرُ عَليها النَّفْسُ مِن غير أن يَهمي ماء المُقلتين. لم يكن الخوف ولا التَّرقُب ما يَشغل الكاتبة الّتي رَحلت والدتها وأُختها بِالمرضِ ذاته، ولكنّها كانت مَشحونة بِالأمل وهو درس للنساء المُصابات، لِتقديم الأمل، وَإعلاء قوة الإرادة. نَجد في هذا الفصل وصفاً لثنائيات مشاعر النفس الإنسانية وما يُخالجها مِن الحُزن والفَرح، والخَوف والاطمئنان، والأمَل والقُنوط، لنَجد الكاتبة وقد مَضت بثبات لتتغلب على مَخاوفها، بإيمانها العميق بِحكمة اللهِ وإرادته ولُطف قَضائه، الّذي جَعل نُور أُمّها يُضيء حُلكة تِلك الأيام، مَسنودة بِالأسرة، وبِالأخت، ورفيق الدَّرب. فالكاتبة تَتَمسك بِالحياة لآخر لحظة، وكتاب الألم يُشرِع سُفن الأمل، لِتُبحر كأنَّها تُردّد بِصوتٍ جَهِيرٍ، قصيدة الشّاعرة الإيرانيّة فروغ فرخزاد، “ميلا آخر”، الّتي تقول فيها:
“ربّما تَعني الحياة
شارع مُمتَّد تَعبره كلّ صباح
ودون انقطاع
امرأة ما
تحمل خبزها وبيتها في سلة”.10
الحياة الّتي تَحتفي بِها الكاتبة والقوة الّتي جعلتها لا تذرف دمعة حين أخبرت أسرتها بإصابتها بهذا المرض، وكلمة السّرطان الّتي أثارت رُعبهم في ذات المكان الذي رحلتْ فيه الأم، الأم التي نبعت روحها عائدة من سرمديتها تمشّط ضفائر الطفلة، الطفلة التي عادت كرة الزئبق تتدحرج أمامها من جديد، هي نفسها الكاتبة د. هدى النعيمي، التي تَسْكُنها عشرات الطفلات الذّكيات، المنشدات لحن الحياة. “إنّها أمّي هناك، في الصّالون الصّغير في بيتنا في حي الريان القديم، تجلس القرفصاء وفي يدها مشط أسود، وتجلس كبرى بناتها أمامها مفرودة الشعر فتسرّح لها شعرها، مع مسحة زيت بسيطة لتهدّئالشعيرات المتطايرة”11. الأمّ والأخت الراحلتان، الأمّ الّتي تَركتْ فراغاً لا يمكن ملؤه والمشاعر تتضارب وتختلج، مرسلة رسائل يقين إلى مناهضة الحزن، واستئصال الثدي ليس بالأمر الهين، ولكنه ليس بالمستحيل، الرسائل المشحونة بالطاقات الإيجابية لكل امرأة، رسائل تجعل مِن كلّ يوم مثل أكتوبر الورديّ. “هناك دوماً ضوء ما في نهاية النفق المظلم، علينا أن نُحسن التدبير في رؤية الأشياء من حولنا، وأنْ نثبت ممّا نملك من قوة”12.
ما بين الرقابة الذاتية والمجتمعية
يُنسب للكاتبة الأمريكية مايا أنجيلو (1928-2014)، قولها: “ليس هناك من ألمٍ أعظم من أن تحبِسَ بداخلِكَ حكاية لم تُروَ”13. في هذا السياق كان لا بدّ من طرح سؤال عن أهمية الكتابة وسرد السيرة الذاتية التي ليست بالأمر السهل الذي يتيح لكلّامرأة أنْ تكتب. جاء رد الكاتبة هدى النعيمي: “شعرتُ في مرحلة من المراحل بحاجة إلى أنْ أكتب ما مررتُ به من تجارب حياتية، خاصة أنّ السؤال الذي يلاحقني دوماً وإلى الآن: كيف استطعتُ الجمع بين العلم (الفيزياء) والأدب (الكتابة) وهذا ما حاولت شرحه في كثير من الحوارات الصحفية التي أجريتها عبر السنوات، لكن شعرت بالحاجة إلى إجابة موثّقة يجب أنْتكون متاحة أمام كلّ من يسأل هذا السؤال.. لماذا اخترت الفيزياء النووية؟ لماذا تكتبين؟ أسئلة ما تزال تُطرحُ أمامي كثيراً.. أحدهم قال لي يوماً، ماذا تزيدك الكتابة وأنت عالمة في الفيزياء؟ كان سؤاله جواباً في حدّ ذاته.. فهو لا يعرف ماهيّةالكتابة للكاتب سواء كان عالماً أم لم يتلقّ من العلوم الدراسيّة إلّا القليل. تجربتي الدراسيّة في القاهرة التي تعني أكثر من جامعة حصلتُ منها على درجة علمية، القاهرة حياة أخرى فتحتْ لي آفاقاً للآخر.. وهذا الآخر كان فكرة مقنّنة ثم صارت فضاءاً أدّى إلى ما يسمى كتابة.. لذا كتبتُ”14. وتقول الكاتبة حول سؤالي عن الرقابة الذاتية أو المجتمعية: “نعم حاصرتني تلك الرقابة القاسية وصار القتال الداخلي مع الرقابة الذاتية قضيتي لشهور طوال، كما كانت الرقابة المجتمعية أيضاً الخط الثاني الذي يحدّ من الكتابة والاسترسال الجميل، فإذا ما غادرنا هذا وذاك جاء الرقيب الرسمي بسلاح السلطة ليقول كلمته الفصل، وهنا كان لا بدّ من مراجعة كل ما كتب للخروج من أرض الرقيب بأقلّ الخسائر ليخرج هذا الكتاب إلى العلن بالشكل الذي خرج به، ولأنّ (رُبَّ ضارةٍ نافعة) أظنّ أنّ كلّ تلك الرقابة المشدّدة، سواء الذاتية أو المجتمعية أو الرسمية، أظنّها في نهاية الأمر جعلتني أعود إلى التكثيف والاختزال دون الإخلال بروح النص ليخرج في نهاية الأمر متماسكاً وبدون ترهّل أو ثرثرة، ربّما فعلت معي الرقابة خيراً باختصار ما يمكن اختصاره ليصل إلى القارئ نصّاً قويّاً متلاحماً” .. ثمّ هي تشير إلى فتح المَخبّأ في الأدراج في كتاب سيرتها: “شجّعتني تلك المَعارف على أنْ أُخرج بعض أوراقي الأدبيّة، وأن أُعلن عن بعض كتاباتي التي ظلّت شبيهة بالسرّ الدفين، ووجدت نفسي مَدفوعة نحو الهم الجمعيّ في فعل الكتابة، ونبشتُ أوراقي من مخبئها…”15.
إنّها قصّة نَجاح تحكيها السّيرة وتمنحها رؤية طريق لكلِّ امرأة أرادت الانتصار لذاتها وطموحاتها، في السّيرة، دروس عظيمة، وقوّة عزيمة، وتمسُّك بِالأمل، ورؤية لقيمة الوقت، واستثماره فيما يفيد. دروس في قيمة الإيمان باللّه تعالى في أحلك الظروف وبالإيمان انتصرتْ الحياة ولسان حالها يهدلُ مَع الشّاعرة والمفكرة الأفروأمريكية مايا أنجيلو: “مهمّتي في الحياة ليست مُجرد البقاء، بل الارتقاء، مَع بعض الشَّغف والرّأفة والفُكاهة والجمال”. ذات الكلمات تخرج مِن مَزامير حَنجرة الكاتبة، تقف شامخة بتجربة وعي شامخة تَجلَّت في النَّخيل الّذي باح ولن يكف عَن البَوح والفَوح.
المصادر:
١- القرآن: سورة الحجر، الآية رقم 46
٢- بيتُ النَّخيل مَوجود في قَصر “شُنْبُرِوَنْ –Schönbrunn “، بالعاصمة النَّمساويّة فيينا
٣- النُعيميّ، حين يبوح النخيل، ص 127، وما يليها
٤- مقطع من القصيدة
٥- النُعيميّ، حين يبوح النخيل، ص 142.
٦– المرجع نفسه، ص 149.
٧- اسمها الحقيقي مارغريت آن جونسون، وهي كاتبة مقالات، وسير، وشاعرة أمريكية معروفة
٨- لقاء في جريدة الجزيرة، تاريخ النشر 20.08.1999، تحت الرابط التالي: https://www.al-jazirah.com/1999/19990820/wn4.htm
٩- النُعيميّ، حين يبوح النخيل، ص 121 وما بعدها
١٠- النُّعيميّ، هُدى: حين يبوح النَّخيل، ط1، قطر، دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة، 2022م
١١- المصدر السّابق، ص 7.
١٢- المصدر نفسه، ص 37.
١٣- المصدر نفسه، ص 40.
١٤- المصدر نفسه، ص 43
١٥– المصدر نفسه، ص 83
د. إشراقة مصطفى حامد
كاتبة ومترجمة وباحثة نمساوية من أصل سوداني، تعيش وتعمل في فيينا منذ العام 1993، حيث درست الإعلام والعلوم السياسية. لها العديد من الإصدارات الخاصة وترجمت العديد من الكتب. نالت العديد من الجوائز، كما تُوّجت بالميدالية الذهبية لحكومة العاصمة النمساوية فيينا تقديراً لجهودها الثقافية والإبداعية في المجتمع النمساوي.
د. هُدى النُّعيميّ
كاتبة وباحثة قطرية، أثبتت نفسها مبدعةً في مجال القصة القصيرة والسيرة، وشاركت في التحكيم في جوائز أدبية عالمية. تحمل دكتوراه في الفيزياء، وحاصلة على جائزة الدولة في العلوم، ومثّلت وطنها في المؤتمرات العلمية الدولية، وتعمل على تطوير أنظمة الحماية من الإشعاع داخل المؤسسة الطبية، وتشغل حالياً منصب أستاذ مساعد في جامعة ويل كورنيل للطب.