1.”تَبتَسِم الدَّوحة في وَجهِك كَأُمٍّ مُشفِقةٍ حَنون، ليس كلّ المُدن تَملِكُ مِثل هذا الكرم”
ينغمسُ القارئُ في أغوارِ هذهِ الروايةِ، يندمجُ معَ أحداثها وشخصياتها، ويتنقّلُ عبر خيوطها المتشابكةِ ليستكشفَ تفاصيلَ مدينةِ الدوحةِ بأبعادها المذهلةِ والمعقّدةِ، حيثُ تكونُ هذهِ المدينةُ خلفيّةً مثيرةً للأحداثِ الملتقطةِ ببراعة. تتألقُ الدوحةُ كمسرحٍ رئيسٍ يُبرزُ فضائلَ الاكتشافِ وتحقيقِ الطموحِ، إذ تؤدي دوراً حيوياً في تكوين شخصياتِ الأبطال. تقدمُ الدوحةُ في الرّوايةِ فُرصاً غنيةً للتطورِ الشّخصيِّ والمهنيِّ؛ مما يضفي طابعاً فريداً على رحلةِ الشخصياتِ. تأخذُ الروايةُ القارئَ في رحلةٍ مثيرةٍ وعميقةٍ عبر عوالمَ عاطفيةٍ وفلسفيةٍ، وتستكشفُ ببراعةٍ تفاصيلَ حياةِ الشخصياتِ في ظلِّ التغيّراتِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ في مجتمعاتنا الحديثةِ، مما يجعلها تجرِبةً أدبيةً غنيةً تتيحُ فهماً أعمقَ للعلاقاتِ الإنسانيةِ والتحولاتِ التي يمكنُ أن تطرأ عليها في مواجهةِ التحدياتِ.
تَتَناوَلُ الرِّوايةُ قِصَّةَ رَجُل ثَريّ في مُنتَصَف العُمر، يَتَنقَّل بَين ألمانيا وَقطَر. يلتقي البطل مَجموعةً مُتَنوعَةً مِن الشَّخصيّات القادمة مِن بُلدان وثقافات مُختلفَة إلى الدَّوحة. تَرصد الرِّوايةُ أحلامَ هَذِه الشَّخصيّات ومعاناتها وعاداتِها وتقاليدها مِن خِلال لِقاءاتها مع البطل الخمسينيّ. ويتمحورُ السَّردُ بِشَكلٍ رئيسٍ حَول لِقاءِ البطلِ بِالبطلةِ “أيزات”، الفتاةِ اليتيمةِ الجميلةِ مِن قرغيزستان، التي عاشَت حَياةً صَعبَةً بَعد فِقدانِ والديها في سِنٍّ مُبَكرَة.
تَبدَأ أحداثُ الرِّوايةِ تَحت وَطأةِ جائِحة كورونا، إذ يَظهَرُ الحظرُ بِوصفه خَلفيةً لِلأحداث. وسطَ أشعَّة الشَّمس الحارقة في شَهر حُزيران، تَتَسارَع التَّفاصيل وتتشابك، مُعَقدَةً ومتداخلةً مع أحداثٍ أُخرى، مِمّا يُضفي تعقيداً إضافيّاً على خُيوط السَّرد: ” بلا موعد التقينا، ولم تمضِ شهور حتى انتشر الوباء، وأكبر همي تدوين الأحداث قبل أن يغرق العالم بطوفان الكورونا”2. وفي موضع آخر: “لقد بدأت الحرارة ترتفع مع الاقتراب من الشهر السادس، ولا يزال انتشار الوباء يتسع، ولا أحد يعرف كيف ينتهي ومتى تتمكن المخابر من إيجاد لقاح يقاومه”3.
ثُمَّ تَأخُذنا الرِّواية في جَولَة هادِئة وتأمُّليَّة عَبر أرجاء أحياء الدَّوحة القديمة، حَيث نَتَجوَّل في حاراتِها بَين بُيوت الطّين والخَشب وَدروب الرِّمال المتحرِّكة. يَظهَرُ الماضي بِوضوحٍ على جُدرانها المتشقِّقة وأبوابها ونوافذها العتيقة، حاملاً تاريخًا غنيًّا بِالتَّحدّيات والصُّعوبات التي عاشتها المدينة. وَعلى الرَّغم مِن ذَلِك، تَكشِف تِلك االأزِقة عن جانِب آخر مِن الفقر، مُقَدّمَةً لَنا رُؤيَةً إيجابيَّةً لِلحياة على الرَغم من التَّحدّيات، إذ تَظهر الرّوحُ العالية، والتَّضامن الاجتماعيُّ، والرِّزق القليل الذي يُبارَك بِالمحبَّةِ والتَّكافلِ بَين أفراد المجتمع.
وَفي سياقٍ آخر، تَنتَقِلُ الرِّوايةُ بِنا إلى الأحياء الحديثة، حَيث الشَّوارعُ المعبَّدة، والأبراجُ الضَّخمة، والجزرُ المائيَّة الفاخرة. يُصوِّر الدُّكتور شُباط بِدقَّةٍ حَركَةَ الحياةِ المتواصلةَ، وَصخَب العمل والتَّنمية التي تَتَلاحَم دون انقِطاع. يُقدَّم هذا الوصف الجميل لِلمدينة مِن خِلال عُيون الشَّخصيّات في الرِّواية، مِمّا يُضيف إلينا رُؤيَة فَريدَة وَشامِلة لِجماليّات الحياة في الدَّوحة. ونقتَبس هذا الوصف الجميل لِلمدينة مِن الرِّواية:
“على بحيرة فنية متوسطة الحجم، مقطوعة من ماء الخليج العربي، بين قرصي جزيرة اللؤلؤة الاصطناعية، أقيم الحي الأرقى بين أحياء الدوحة الجديدة، حيث الأبراج السكنية المتناظرة تتوزع على حواف الماء، وقد جُهزت بأحدث وسائل الراحة؛ مثل صالات الألعاب الرياضية، والمسابح الداخلية، ومواقف سيارات طابقية وأخرى لليخوت، وقنوات مائية وجسور، ومطاعم عائمة، وألحق بالحي مجموعة من أشهر الماركات التجارية، والمقاهي العالمية، ومعارض العطور، والتحف، فأنت أمام عروضٍ لا تنتهي للبهجة، لقد أُريد للحي الجديد أن يعكس نهضة وقوة الإمارة الفتية والغنية، وأن يضعها على مستوى محفل الدول الثرية في العالم، أسطوانات الغاز يخرج منها هنا مارد سحري جبار يدفن بكفيه الهائلتين ماء البحر ويغرس فوقه أعمدة الخرسان، والحجارة، ويراكم البناء حتى يزاحم الطيور في السماء أو يعترض دروب السحاب”4.
وفي موضعٍ آخر، يقول الكاتب: ” في كل مكان؛ حيثما وليت وجهك ثمة فندق سياحي أو برج تجاري أو ملعب رياضي، وتتوزع بينها حدائق مورقة، بالكاد ترى هنا أطياف جِمال أو سراب صحراء أو مخايل نخيل، بل كل ما تراه هو دوحة غنّاء تنعم بالتقدم والمدنية”.
وفي مكانٍ آخر نقرأ هذا الوصف: ” أوشكت الشمس على الغروب، الجو هذا المساء بديع، أراقب من شرفتي حركة الخليج وماءه الأخضر، ومن الضفة الثانية تعرض لناظري بيوتات الدوحة وهي تتزين بأبهج المصابيح، وأرى الشاطئ الغربي وحيدًا لا أنيس لرماله الصفراء غير قوارب الخشب العتيق، التي ترسو قبالته، وكذا الحي الثقافي بجانبه ينعم بالهدوء وقد تنفس الصعداء مع التزام الناس بيوتها، وكانوا يزحمونه صباحًا بالعمال والموظفين، ومساء بالعشاق وهواة السير ليلاً. وأستطيع أن أرى بوضوح كامل كتلة الأبراج الضخمة وسط الدفنة، وإن أرخيت بصري إلى الأمام رأيت مدينة الوكرة، وقبلها تلوح لي أضواء المطار الدولي”5.
وهكذا يَتَعانَق أريج الماضي الرّوحيّ، مع عبق الحاضر المادّيِّ، ليشكِّلا معاً مُستقبَلَ الدَّوحةِ الاجتماعيَّ والدّيمغرافيَّ، إذ تَوافدَت أسراب العمالة الأجنبيَّة إليها زُمراً يَعقُب بَعضُها بعضاً على مَدار االعُقود الأخيرة، وما زال يَتَجدَّد توافدها ويتوَسَّع بِتجدُّد الأعمال والمشاريع الكبيرة في جميع أرجاء البلاد، وَهنا تَصِل بَطلَة الرِّواية “أيزات” التي يَعني اسمها ” بِنتُ القمر”، وَهو اسم مُكوَّن مِن مَقطَعين الأوَّل تُركي “أي” وَيعني القمر، والثّاني فارسي “زات” وَيعني “بِنتُ”6. وَلعَلّ الكاتب اختار هذا الاسم ليُظهرَ التَّداخل الثَّقافيّ والتّاريخ الحضاريّ المشترك لِشعوب المنطقة، فالفتاةُ الوافدة لِلعمل في المدينة العربيَّة قادِمة مِن شَرق آسيا مِن دَولَة قيرقيزستان، حَيث تَلتَقي المؤثِّرات الآسيويَّة مع التُّركيَّة والفارسيَّة والعربيَّة معاً.
” كانت عيون أيزات مائلة وواسعة تتوهج بالجمال مثل عيون كل النساء التركيات من قيرغيزستان. حينما تنظر إليك يخالجك شعور بالرهبة وكأنك تقف أمام ذئبة مستنفرة تحيط بها هالة من السحر والغموض والتحدي”7.
ثُمَّ نرى كَيف تُساعِد الحياة في مَدينَة مُنفتحَة تَتَعايَش فيها مجموعات بَشَريَّة مُتَعددَة الأعراق والثَّقافات والأديان في تَعزيز مَكانَة المرأة وتمكينها، وكيف أسهمت الدَّوحة في تَحرير أيزات مِن القُيود الاجتماعيَّة القرويَّة الجائرة في بَلدتِها، حَيث عادات الزَّواج في تِلك الأنحاء عَبر خَطف الفتاة وإرغامها على شريك لا تَعرِفه أولا تُريده. هذا التَّنَوُّع الثَّقافيُّ والاجتماعيُّ الذي توَفره الدَّوحة، أسهمَ بفَعّالية في تَطوُّر وعيها على المستوى الشخصي والمهنيِّ والثَّقافيِّ، وَتنمية قُدراتها الفكريَّة ومداركها العاطفيَّة. وتوضِّح لَنا رِواية “أيزات” كَيف يُمكِن لِلبيئة والفرص أن تؤدي دوراً مهمّاً في تَحويل حَياة النّاس وَتحقيق الطُّموحات. في الدَّوحة وَجدَت بَطلَة الرِّواية المجال المفتوح لِإثراء ثقافتها وَتطوير الذّات، وَكذَلِك تَعلمَت روح التَّحَدّي التي تَنتَشِر بَين العمّالة الوافدة في قطر وَبَقيَّة دوَل الخليج العرَبيِّ، لِإثبات الذّات، وَتحقيق النَّجاح االمهني، وَتحصيل الرِّزق والمال.
كانت عيون أيزات مائلة وواسعة تتوهج بالجمال مثل عيون كل النساء التركيات من قيرغيزستان. حينما تنظر إليك يخالجك شعور بالرهبة وكأنك تقف أمام ذئبة مستنفرة تحيط بها هالة من السحر والغموض والتحدي
ثُمَّ تَتَعاقَب الأحداث لِتسهم هَذِه المدينة الحضريَّة والعصريَّة في تكوين رُؤيَة بَطلَة الرِّواية لِلمستقبل، وتوجيهها نَحو تَحقيق هدفها لِتحسين ظُروف معيشتها، وَمِن خلفها أُسرتها في بلدها الجبَليِّ الفقير، وكيف أنها سعت خَلف حُلمِها لِتعمل مُضيفَةً في شَركَة الطَّيران القطريَّة بِراتب مُتَميز، وضمانات عمل اجتماعيَّة وصحّيَّة جَيدَة. وَتصِف الرِّواية حالَة المرأة الوافدة:
“هي في مقتبل العمر، تغرَّبت عن أهلها ووطنها لكي تحقق حلمها، وفي سبيل ذلك عانت الكثير، فالحياة تفرض علينا غالبًا ما لا نحب، وتُحمّلنا أحيانًا ما لا نطيق، ولم يكن انتشار وباء الفيروس التاجي في الحسبان، مما جعل مهمتها أصعب، إذ هي تنوي ألا تعود قبل تحقيق حلمها. لعلّ طائر القوقاز الورديّ يفرد جناحيه قريبًا ويحلق تحت شعاع الشمس”8.
على الرَّغم مِن الظُّروف الصَّعبة التي مَرَّت بِها أيزات، ترعرَعت وَهي تَحمِل داخلِها إصراراً قويّاً على استكشاف عَوالِم المعرفة، خاصَّة في مجالات الأدب والتّاريخ
واللُّغات. إنَّ هذا الإصرار والتَّفاؤل هُما اللَّذان قاداها إلى اتِّخاذ خُطوَة مُهمَّة بَعد إكمالها لِلدِّراسة الجامعيَّة. إذ انتقَلت إلى الإمارات العربيَّة المتَّحدة، وَمِن ثمَّ إلى قطر، بِهَدف تَحقيق حُلمِها. أيزات، وعلى الرغم من مِحنتِها الشَّخصيَّة بِفقدان والديها وبداية حَياتِها الصَّعبة، وَجدَت في الدَّوحة بيئة تَشجعها على بِناء شخصيَّتها بِقوَّة، وَتطوير قُدراتها، فالمدينةُ لَم تَكُن مُجرَّد مَكان لِلإقامة فحسب، بل كانَت مِنَصّةً داعِمة، حَيث استطاعت أن تَتخِذ خُطواتٍ مُمَيزَة نَحو تَحقيق طُموحِها في أن تُصبِح مُضيفَةً لِلطَّيران. وَهنا، يَبرزُ دَور الدَّوحة بوصفها مَكاناً يَسمَح لِلنِّساء الوافدات بِتحقيق الذّات وَتحقيق طُموحاتهنَّ، وَهو مِثال على إمكانية أن تكون المدن بيئةً داعِمةً تُساعِد الأفراد على استثمار إمكانيّاتهم وَتحقيق ذاتهِم.
وتُناقِش الرِّواية أيضاً قضايا النَّوع الاجتماعيِّ والتَّحدّيات التي تواجِه المرأة في المجتمعات الشَّرقيَّة والغربيَّة على حدٍّ سَواء. وتظهر هُنا المرأة في المجتمع القطَريِّ والعربيِّ، وَكذَلِك المرأة العاملة الوافدة إلى الدَّوحة بوصفها شخصيةً تَسعى لِلتَّحَرُّر مِن القُيود الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة القديمة المفروضة بصورة سَلبية. وَهي تَنجَح في الوُقوف بِثبات أمام التَّوقُّعات الاجتماعيَّة التَّقليديَّة، وَتحقيق استقلالها وحرّيَّتها الشَّخصيَّة، وَذلِك بِدَعم وتشجيع من البيئة الاجتماعيَّة الجديدة التي تعيش فيها، وَتُصِرُّ حَتّى النِّهاية على تَحقيق شغفها الوظيفيِّ، وَنختِم المقال، بِهَذا الاقتباس الجميل:
” يحمل الإنسان في أعماقه صورة العالم الذي فتح عينيه عليه أول مرة، ويبقى حنينه وعشقه له حاضرًا في قلبه ووجدانه أينما ذهب. تَحنُّ أيزات إلى تفتح زهور الربيع على طرفي نهر نارين الذي يُشكِّل المدينة إلى نصفين، ويلهث سريعًا ليعانق نهر سيحون العظيم. تشتاق أيزات لسماع صهيل الخيول وهي ترعى العشب على سفوح الجبال، وإلى ذلك النسيم العليل، حين تحمله الريح اللينة منعشًا نقيًا من ثلوج القمم العالية”9.
المصادر:
١- شباط، عبد الحكيم: رواية أيزات، ط1. ألمانيا، دار الدليل، برلين، 2020، ص207
٢- المرجع نفسه، ص 3
٣- المرجع السابق، ص 112
٤- رواية أيزات، ص10-11
٥- المرجع السابق، ص11
٦- المرجع السابق، ص7
٧- المرجع السابق، ص 5
٨- المرجع نفسه
٩- المرجع السابق، ص166
١٠- المرجع السابق، ص208
باحث سوري، حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب. استكمل دراسته العليا في جامعة برلين الحرة وحاز شهادة الماجستير في الآداب. ارتكزت رسالته على أدب الثورات والحروب، واستعرضت الواقع السوري الحديث نموذجاً. وله مساهمات في الترجمة الألمانية – العربية وتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. يعيش حالياً في ألمانيا، ويشغل منصب إدارة مؤسسة تعليمية اجتماعية تُعنى بدعم اللاجئين والمهاجرين.