تميّزت المُستشرقة الألمانيّة الفذة آنا ماريَّ شيمَل (1922-2003م) في أوساط العلوم الإسلاميّةِ والاسْتِشْراقيَّةِ الألمانيّة والعالميّة في زمانها بِنظرتها المُتفرِّدة والعاشقة للإسلام. وقد تعددت مَجالات اهتماماتها، إلا أنّ مَجال التَّصوف والجماليات الإسلاميّة ظلّ يتصدَّر كلّ هذه الاهتمامات لما لها فيه من باع طويل. واحتفاءً بالذكرى المئويّة لميلاد رائدة الاستشراق الألمانيّ آنا ماريَّ شيمل، سوف نستقصي جذور هذه النّظرة للإسلام، وسَنُسلط الضوء على أهميتها في الوقت الراهن، ونستشرف حدود إمكانيتها كنظرة رائدة يُسترشد بها في المستقبل.
وأريد بادئ ذي بَدءٍ أن أعترف أنني أغبط آنا ماري شيمل، وأنني لا أرى مانعاً في أن أبُادلها التّجربة الخاصة؛ إلا أنها بكل تأكيد لن تنزل عند رغبتي ولن تقبل بمثل هذه الصّفقة السّيئة. والواقع أن عملية التبادل هذه لا أتوخى منها السطحيات ولا المظاهر؛ إني لا أغبطها لأنها كانت ناجحة أكاديمياً، ولا لكونها امرأة حققت نجاحاً وتفوقاً في وسط أكاديمي كانت السيادة فيه آنذاك حكراً على الرجال فقط، ولكن من جهة ثانية، فإنه من المؤكد بأنه لا أحد يحسدها على الخلافات والجدالات التي خاضت غمارها، ولا على بعض الإهانات الصّغيرة الّتي تعرّضت لها، وعَمدت إلى سرد بعضها في سيرتها الذّاتية “حياتي الغرب- شرقيّة”، إذ نُعتت بـ”الآنسة شيميلاين” (أي شيمل الصّغير) أو بتسميتها “جميلة”.. إلخ، وهي نعوت قد يبدو ظاهرها بريئاً، لكن آنا ماري شيمل فهمت المقصود منها، واعتبرتها تقليلاً مِن شأنها وإلحافاً بقيمة دورها المُهم كباحثة فذّة، ومحاولة اختزالها بمظهرها الخارجي كأنثى لا غير.
هل كان لأيّ أحد أن يتجرأ على فعل مثل هذا، لو كان الأمر يتعلق برجلٍ بالغ الموهبة واسع الطموح؟ لقد نقلت شيمل في هذا السياق عن ناشطة نسويّة كانت صديقة لها قولها: “الرّجال أعداء لنا”. فمنذ أيام الجامعة والعمل في وزارة الخارجية والجمعية الشرقية الألمانية إبّان الحرب، كانت آنا ماري شيمل تتمتع بعلاقات متينة في أوساط الدّراسات الشّرقيّة الألمانيّة1، وسبق لها أن نالت شهادة الدكتوراه سنة1941م، وهي لا تزال في سن التاسعة عشرة، وهو إنجاز لا يمكن تصوره في وقتنا الراهن. وفي مارس من سنة 1945، وفي عِزّ اضطرابات نهاية الحرب، قدمت شيمل أطروحة تأهيلها للأستاذية؛ ولكنها مع كل ذلك لم تحصل على منصب أكاديمي مناسب إلى حد ما لكفاءتها إلا سنة 1961م في بون.
تُعدُّ آنا ماري شيمل أول باحثة على الإطلاق صنعت لنفسها اسماً ذائعاً في مجال الاستشراق والعلوم الإسلاميّة. وإلى أي مدى يظل هذا العلم مُجحفاً بحق النساء، فإن هذا يتجلى في حقيقة أنه من عشرات الترجمات المنجَزة للقرآن إلى اللُغات الأوروبية، هناك ترجمة واحدة أنجزتها امرأة باحثة وهي أنجيليكا نويفيرت. وهذا المثال يكشف بجلاء بأن الأفكار والممارسات الثقافيّة الحمقاء التي أنتجتها الأوساط الثقافية “الذُّكوريّة” التي بُنيت على أساس اعتبار “المقدس” مجالاً من اختصاص الرجال فقط، فإنها كانت قائمة على الدوام، وبين عجلات هذه الطواحين وقعت آنا ماري شيمل على الدوام؛ إلا أنها لم تستسلم، بل أعادت الكرّة تِلوَ الأخرى، لتزيل كلياً الحوائل والعوائق التي كانت تقف باستمرار في طريق دراسة النساء للعلوم الإسلاميّة، جاعِلةً منها أمراً اعتيادياً وتخصّصاً طبيعياً لكلّ من يرغب في ذلك.
وقد أنجب الجيل ما بعد آنا ماري شيمل عالمات جليلات تركن انطباعاً عميقاً وبصمات واضحة في أوساط العلوم الإسلاميّة. سَبق لي أن ذكرت على سبيل المثال أنجيلكا نويفِرت. إلى جانبها أسوق من المجتمعات النّاطقة باللّغة الألمانيّة أسماءً أخرى أمثال غودرون شوبرت، روتراود فيلاند، فيبكه فالتر، ألماجيزه، وأخريات كثيرات على اعتبار أنهن بشكل أو بآخر وريثات آنا ماري شيمل ومقربات لها، ولا سيما فيما يتعلق بتحمسها للأدب.2
وإن كنت لا أغبط آنا ماري شيمل على مسيرتها المهنية الّتي عملت “العقلية الذكورية” على عرقلتها وفرملتها (وهنا أفتح قوساً لأقر في هذا الصدد أن التّرقي المهني وحتى بالنسبة لي كرجل لم يكن يوماً أمراً هيناً، بل كان أمراً مُستعصياً للغاية فما بالك بالنساء)، فعلى ماذا عساني أن أغبطها إذاً؟ مِمّا لا شكّ فيه أنني سأغبطها على عدد اللُّغات الّتي تُجيدها وتملك ناصيتها، وكذلك وبكل تأكيد على الكتب التي ألفت الكثير منها بِسبْق لا مزيد عليه. في حين أنني أتعزَّى بكونها قد فاقت حتّى الكاتبات والكُتّاب الأغزر إنتاجاً في عالم التأليف. ومن خلال ترجماتها وكتاباتها فَتَحَتْ الطّريق أمامي شَخصيّاً كباحث في العلوم الإسلاميّة، لأقتفي أثرها وأنحو نحوها من جهتين:
فمِن جِهة أولى، مجلة “فكر وفن” التي دعّمت الحوار بين ألمانيا والعالم العربيّ بقوة، وقد قام ألبريشت ثايله، وآنا ماري شيمل، بتأسيسها وإدارتها منذ سنة 1963م، حتّى أواسط السّبعينيات، ثمّ بعد ربع قرن، وفي الفترة الحرجة التي رافقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كان لي شرف تولي رئاسة تحرير هذه المجلة.
وإذا ما قارنا الأعداد الّتي أشرَفَتْ عَلى إصدارها بتلك التي أشرَفتُ عليها، فسوف يتسنّى لنا أخذ فكرة عمّا أغبطها عليه: فقد كانت تعمل على تشكيل الأعداد كما تشاء وكما يروق لها على أوراق لمّاعة وطبقاً لمعايير جمالية وفنية صرفة دون التلفظ بكلمة “السّياسة” ولو مرة واحدة، ناهيك عن أن تكتبها. مع أنني لا أتحسّر على أن المجلة نحَت منحى سياسياً أكثر جدلية ومتعدد الأصوات، إلا أن القارئ -وهو يتصفح الأعداد القديمة -لا يسعه إلاّ أنْ يقر بأنّ العالم وقت كان إصدار مجلات على الطريقة التي اعتمدتها آنا ماري شيمل لايزال ممكناً كان عالماً أجملاً أو أكثر سذاجة واستعداداً لتذوق الجمال وإدراك الجماليات. وقد تعرضت آنا ماري شيمل بالفعل وقتها لانتقادات من قبيل أنها لم تكن سياسية بما فيه الكفاية.
آنا ماري شيمل لم تُعْنَ، وعلى عكس كل الآخرين، بكلاسيكيي وعُظماء الأدب الشّرقيّ فحسب، بل أيضاً بمعاصريها مِن شُعراء وشاعرات بما في ذلك الشّباب مِنهم والأصغر سِنّاً، وهذا ما كان جديداً، ولم يسبق له مثيل، ولم يُسمع به من ذي قبل
ثُمّ ألا يحقُّ لنا اليوم أن نَغبطها على هذه الانتقادات، إذ بات تسييس اللّغة حتى النُّخاع بطريقةٍ لا هوادة فيها ولا رحمة؟وبالطبع ليس هذا هو السبب الذي أغبطها عليه في الحقيقة. قبل أن آتي على ذكر السبب، اسمحوا لي أن أُشير إلى جانبٍ ثانٍ مِن عملها الذي أصبحتْ فيه لي قدوةً ومثالاً أقتدي به، إذ كانتْ واحدة من أوائل الأشخاص القليلين مِن عُلماء وعالمات جيلها، الذين لم يهتموا بالعالم الإسلاميّ المُعاصر على أساس أنّه مادة فقه لُغويّة ميتة أو على أنّه مُجرد قضية سياسيّة ومسألة سوسيولوجيّة، ولكن بناءً على كونه عالَماً يتحمسون لأدبه المعاصر. فآنا ماري شيمل لم تُعْنَ، وعلى عكس كل الآخرين، بكلاسيكيي وعُظماء الأدب الشّرقيّ فحسب، بل أيضاً بمعاصريها مِن شُعراء وشاعرات بما في ذلك الشّباب مِنهم والأصغر سِنّاً، وهذا ما كان جديداً، ولم يسبق له مثيل، ولم يُسمع به من ذي قبل! وهكذا أصبح العالم الإسلاميّ ابن عصره، لا يُنظر إليه كمشكلة سياسيّة، بل من زاوية إنْجازاته الجديدة كثقافة حيّة مُعاصرة وبنظرة مُتكافئة مَع ثقافتنا. ولتقدير النّقلة النّوعيّة الّتي أحدثتها آنا ماري شيمل حق قدرها يجب هنا الإشارة إلى أن غوته، ريكرت، وآخرين، ولئن كان اهتمامهم بالشرق دائماً مَحل إطراء وإشادة، إلا أنهم لم يتجاوزوا ماضي هذا الشرق بشعرائه، ومفكريه وقديسيه المتوفين منذ أمد بعيد.
أما الجهة الثانية، فهي أنَّ آنا ماري شيمل كانت قد أصدرت سنة 1975م، مُختارات مُترجمة للشعر العربيّ المُعاصر وهي التّجربة الّتي حذوتُ حذوها لعشرين سنة، كمترجم، ومُستعرب، مُحتكماً بها تارة، ومتمرناً تارة أخرى.3 لقد برهنت شيمل بالفعل على علو كعبها في هذا المجال. ألم يكن بالإمكان أن نُحقق أو أن أحقق أنا شخصياً ما هو أفضل مما حققته شيمل؟ ألم يكن بالإمكان التفوق عليها؟ هذا ما لم يكن بالأمر اليسير، إذ إنني جعلتُ ما كان ثانوياً ونشارة عمل آنا ماري شيمل أمراً أساسياً. فمن يعتزم التفوق على آنا ماري شيمل عليه أن يكلف نفسه مشقات من أجل أن يُحقق بعد لَأي ومشقة ما كانت تُنجزه هي بدون عناء ومن غير تكلُّف. وعلى من يبتغي مُنافستها أن يستحضر كل احترافيته فيما ابتدعته هي بجرة قلم.
وحيث شَقَّتْ هي الطَّريق سَعينا نحن إلى بِناء طُرق كبيرة واسعة ظانين أننا سنتفوق عليها. من المؤكد أننا قطعنا شوطاً، أو نَطمع في أن نكون كذلك؛ لكنّها كانت هي أول مَن سَلك هذه الطّريق4، فلم يحصل قط أن رأت آنا ماري شيمل في معارفها وأصدقائها العرب والأتراك والإيرانيين والباكستانيين مصدر معلومات أو مُخبرين مَحليين أو أشياء من هذا القبيل ولا حتّى (موضوع) أبحاث أنثروبولوجيّة، إثنولوجيّة اجتماعيّة أو سيّاسيّة، كما هو الشّأن في أيامنا، وما سيرتها الذّاتيّة “حياتي الغرب- شرقيّة” في نهاية المَطاف إلا كتاب ذكرى كبير مُهدى إلى كلّ صديقاتها المُسلمات وأصدقائها المُسلمين. ومن خلال تَخليها عن المسافة الأكاديميّة المُصطنعة، وكذلك المادية المحسوسة والمستوعبة الّتي كانت تفصل الكثيرين في الأوساط الأكاديميّة عن (موضوعات) أبحاثهم على اعتبار أنّها ضرورية علميّاً للحفاظ على “الموضوعيّة”، استطاعت شيمل أن تتجاوز زمانها مستشرقة بذلك مستقبل الدّراسات الإسلاميّة، في حال كان هناك بالفعل مستقبل لهذه الدّراسات. لم يكن لي أن أغبطها في هذه النُّقطة وإنما كان عليّ أن أحتذي حذوها وأقتفي أثرها.
الجدل بشأن جائزة السّلام5
ما أغبطها عليه هو أنها كانت -وعلى الرغم من جميع أعمالها المستشرقة للمستقبل- تقف على الطّرف الآخر مِن هُوة عميقة جعلت مواصلة السّير على نَهجها أمراً مستحيلاً بالنسبة لنا نحن اللاحقين. هنا بالضبط حدث انقسام أو انقطاع ما، كان يتوجب إعادة النّظر فيه ومراجعته. هذا الافتراق لم يبدأ فقط مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ومضاعفاتها السّالفة الذّكر، التي خصصتُ لها كتابي الأخير “نقطة الصّفر 9/11 وميلاد الحاضر”،6 بل كان بالنسبة لآنا ماري شيمل واضح المعالم حتى قبل ذلك الوقت، إذ تَجلَّى في الحَملة الّتي شُنَّت ضِدها عندما حصلت على جائزة السّلام الألمانيّة لِتجارة الكتب في سنة 1995م، حينها أُلقي عَليها اللّوم؛ لِكونَها لم تتخذ موقفاً حازماً بِما فيه الكفاية مِن قضية الفتوى الصّادرة من قبل آية الله الخُمينيّ بإهدار دم الكاتب البريطانيّ الهنديّ سلمان رشدي مؤلف “آيات شيطانيّة”، وأنّها أظهرت -بشكل غير لائق- تفهماً كبيراً لغضب بعض المسلمين بسبب تلك الرواية، فكان هذا إعلاناً عن بداية الخلافات الأيديولوجيّة الحادة الّتي طَبَعتْ السيّاسة “الأورو- أمريكيّة” بعد الحادي عشر مِن سبتمبر، وبشكل أكثر حدة خلال ما يُسمى بـ “أزمة اللاجئين” حوالي سنة 2015. لم يكن كافياً بالنسبة لآنا ماري شيمل بأن تتخذ موقفاً واضحاً ضد فتوى الخُمينيّ، بل كان يُنتظر مِنها أن تنبذ غضب المسلمين المؤمنين وأن تُنكر عليهم حتّى حَقهم في ذلك، وهو ما يعني بصريح العبارة المُطالبة بِمباركتها لِغطرسة الغرب، وجهل المعتادين. وهذه المطالَبة إن دلت على شيء فإنما تدل على المنطق السيّاسيّ المُتصلّب المتمثل في مقولة: “إذا لم تكن معي فأنت ضدي”، وتدل على الأرثوذكسيّة الثَّقافيّة المُتغطرسة القائمة، التي تطبع ثقافة الجدل لدينا إلى يومنا هذا. إنّه مَنطق يَعتبر كلّ ما هو وسطي و”مُعتدل”، وكلّ ما هو عقلانيّ أو مُتناقض جريمة أو جُنحة يتعين قطع دابرها واستئصال شأفتها.
وعلى عكس العاديين من نُقاد وناقدات الأدب والثقافة، كانت آنا ماري شيمل مِن القلائل الذين كانوا خليقين بالحكم والرّد على ذلك انطلاقاً من معرفتهم بخبايا الأمور، ولكن خوفاً من أن تَخلق هذه المعرفة ارتجاجاً في المُسَلَّمات والبديهيات الشّخصيّة
وَقد عاينا ذلك في الآونة الأخيرة إثر الجدل القائم حول الجائحة، ونُعايشه اليوم بِخصوص تَصدير الأسلحة. فالحكمة القديمة القائلة بإمكانية “ورود حالات لا تُحل كما تُحل”، أثارت أسئلة متعددة لا تسمح إلا بجواب أوحد، في حين تلاشت واندثرت في هذه الأثناء مِن الخطاب العام الواسع الخيارات المُتعددة. وفي حالة “آيات شيطانيّة”، وَجَدَ نُقّادُ شيمل أنفسهم عُرضة لهذا التناقض بحيث ظلَّ كتاب رُشدي، وظلّت شِدَّة وقعه المُستفز وإنجازهُ الفنيّ مُستعصي الفهم على قُرّاء وقارئات المؤلف مِن دون إيضاحات جلية مِن العلوم الإسلاميّة؛ لأنه وحتّى نَفهم هذه الشّدة، وكما يقتضيه الأمر عند كتابة أي استدلال، لا بدّ مِن الاطلاع على أساطير المُسلمين في صدر الإسلام التي تمت مُحاكاتها بِسخريّة وتَهكُّم في هذا الكتاب. وعلى عكس العاديين من نُقاد وناقدات الأدب والثقافة، كانت آنا ماري شيمل مِن القلائل الذين كانوا خليقين بالحكم والرّد على ذلك انطلاقاً من معرفتهم بخبايا الأمور، ولكن خوفاً من أن تَخلق هذه المعرفة ارتجاجاً في المُسَلَّمات والبديهيات الشّخصيّة- وهو ما لم يحدث حتميّاً بالمرة- كان مِن الأيسر تفادي التّعاطي مع الأمر ومواجهته مِن خلال الاستقراء والتّفحص. هكذا تحوّلت آنا ماري شيمل إلى شاشة عرض تُسقَطُ عليها صورة العدو، المُنتجة بفعل مجموعة من الأحداث والمواقف المُتلاحقة، التي لا تزال تستحوذ علينا حتى هذا اليوم، وقد تعود على أوروبا بعواقب وخيمة، وتقودنا مُستقبلاً -إن لم يجانبنا الحظ الدّيموقراطيّ- إلى انفجار داخليّ. فالجدل القائم حول مَنح جائزة السّلام لآنا ماري شيمل لم يكن بطبيعة الحال سبباً، بل كان مجرد عارض من أعراض الانقسام والهوة التي كانت آنا ماري شيمل تقف على الطرف الآخر منها، وهي الهوة التي عَسُرَ على جيلي ومن لحقه من الآخرين تخطيها واجتيازها.
أين كان يكمن هذا الانقسام إذن؟ وما هي أسبابه الحقيقية؟
كان يكمن -ببساطة- في أنّ النَّظرة البريئة إلى الإسلام والعالم الإسلاميّ والعربي و”الشّرق” عموماً في حياة آنا ماري شيمل، لم تعد بالأمر الممكن ولا المُتاح، في حين أن فكر آنا ماري شيمل، ومنظور أعمالها في مجال العلوم الإسلاميّة أُسِّس على هذه النظرة البريئة غير المغرضة كشرط مسبق للدراسة. فالتعامل مع الظواهر الثّقافيّة والتّاريخيّة انطلاقاً مِن منظور علميّ يغلب عليه غلو في الموضوعيّة أو طابع الادعاءات والارتياب وروح عدم الثقة طريقة لا تسمح بفهم هذه الظواهر واستيعابها بشكل ملائم، ناهيك عن الإعجاب بها؛ ليكن مَصيرها بالتالي أن تبقى مادة ميتة، صالحة للتشريح ليس إلاّ!
“الاسْتِشْراقُ“، الكتابُ الصّادمُ لـ إدوارد سعيد
إنّ أقوى تعبير وأجلى توضيح على هذا الارتياب، المُتبادل على فكرة، كان قد توصل إليه المفكر والباحث الأمريكيّ- الفلسطينيّ، إدوارد سعيد، وهو زميل مُعاصر لآنا ماري شيمل وعضو في رابطة إيفي الأكاديميّة. مع صدور كتابه “الاستشراق” سنة 19787 ، الذي أثار جدلاً عنيفاً وعاصفة من النّقاش حول نظرية ما بعد الاستعمار. انتهت حقبة البراءة المزعومة، وحصل الانقسام المُتجذّر في حقبة الاستعمار على التنوير والتنظير اللازمين. ومما لا شك فيه أن إدواردسعيد عندما أقدم على تفكيك “الاستشراق” لم يكن يقصد العلوم الإسلاميّة الأكاديمية وحدها ولا حتّى السَّبيل الذي انتهجته آنا ماري شيمل في هذا المجال. إدوارد سعيد كان على كل حال رحيماً في تعامله مع الاستشراق الألمانيّ بأن تحاشى انتقاده، ولربما يعود السبب في ذلك من جهة أولى لكونه لم يكن متمكناً من اللُّغة الألمانيّة، ومن جهة أخرى لأن طبيعة الدّقة اللُّغويّة الصّارمة للدّراسات الشّرقيّة الألمانيّة كانت لا تكشف عن عناصر ضَعف مُقارنة مع الدراسات الاستشراقية للقوى الاستعمارية الأقدم، التي تَغلب عليها الصّبغة السياسية؛ لذلك فإن بإمكان آنا ماري شيمل أن تُشكّل مِثالاً جيداً يُبين لنا المواضع التي غالى إدوارد سعيد فيها أو ببساطة أخطأ فيها، إذ إننا لا نُعثر لديها على أي تبخيس عُنصريّ ولا أيّة استهانة بقيمة الإسلام. ولا نجد أي عمل علميّ كان يَسهُل استخدامه لأغراض سياسات القوة. وهو ما لا ينطبق – ويا للأسف- على عموم العلوم الإسلاميّة الألمانيّة، بحيث سَخَّرتْ في الماضي -وكما هو معروف- نَفسها طواعية وبملء إرادتها إلى غاية نهاية الحرب العالميّة الأولى، وكذلك ما بين سنة 1933-1945م لأغراض سياسيّة، مِن قَبيل إشْعال فَتيل جِهاد المُسلمين ضد الإنجليز وفرنسا.
تشكّل آنا ماري شيمل مِثالاً جيداً يُبين لنا المواضع التي غالى إدوارد سعيد فيها أو ببساطة أخطأ فيها، إذ إننا لا نُعثر لديها على أي تبخيس عُنصريّ ولا أيّة استهانة بقيمة الإسلام
ونَسوق في هذا الباب على سبيل المثال أيضاً القاموس العربيّ- الألمانيّ لـ هانس فير، الذي يُعتبر من أكبر إنجازات الدّراسات العربيّة الكلاسيكيّة، وقد طُبع مرات كثيرة، وتُرجم إلى الإنجليزيّة. تأليف هذا القاموس جاء في فترة الحرب العالميّة الثانية وكان ثمرة للطموحات السياسية العالميّة للرّايخ الألمانيّ. وبينما كانت آنا ماري شيمل تُدرك بأنها مُحقة في الاعتقاد بأنها غير مَعنية بانتقادات إدوارد سعيد فهي، حسب علمي، لم تأت على ذكره في أي مقام؛ إلا أنها كانت تشتغل في إطار تقليد وحقل كانا قد أصبحا -وعن حق- مُشتبه فيهما مِن مَنظورَي ما بعد الاستعمار ومُناهضة الامبرياليّة كما تبناهما إدوارد سعيد. وبهذا فَقدتْ العلوم الإسلاميّة في الأوساط التّقدميّة مَنزلتها وموضوعها، فأصبحت موضع تساؤلات مُتَجَزّئة ومُفتتة إلى ذَرات. وفي خِضم الصِّراع الأيديولوجي المُلتبس النّاتج عن ذلك لم يُعد أو كاد هناك أي مَجال للنظرة الودودة تِجاه الإسلام كالتي مارستها آنا ماري شيمل، كما تعكس ذلك لاحقاً الضجة التي أحدثها حصولها على جائزة السّلام. وبما أنّ هناك أسباب وجيهة لافتقاد هذه النظرة، سأحاول إيضاح بعض تفاصيلها وجَلاء المُخلَّفات والتراكمات الأيديولوجيَّة الّتي تكدَّستْ فوقها خلال العُقود الخَمسة الأخيرة.
الرُّؤيّة الرُّومانسيّة
باختصار شديد يُمكن أنْ نَنعت هذه الرُّؤيّة للإسلامِ بالمحبة والمتحمسة له، ويمكن نَعتها بالرّؤيّة الرّومانسيّة أو ذات الصّبغة الرّومانسيّة. بذلك أفلتت مِن الانتقاد الموجه لاحقاً من طرف إدوارد سعيد، للاستشراق ونظرية ما بعد الاستعمار بما في ذلك الازدراء والتشويه الكامن في مواضيع وأبحاث العلوم الإسلاميّة مِن أيام الدعاية المسيحيّة المُعادية للإسلام. ونَجت كَشَكل مِن أشكال الثّقافة الامبرياليّة – قليلاً ما نَعيه– يكمن في الاحتفال المُتحيِّز للتقدميّة الحديثة والانتقاص مِن كلّ ما يبدو مِن وجهة نَظرهم ما قبل حداثيّ، غير مُساير للعصر، غير متطور ومُتخلّف. فمنذ عصر الأنوار وهذه التّقدميّة الحديثة لا تتوانى في الانتقاص مِن الدّين والتّصوف والجماليات– من كلّ ما يريد أو بإمكانه إذن أن يسحر العالم؛ وأيضاً مِن كلّ ما كرّست آنا ماري شيمل أعمالها له. وقد سبق لـ نوفاليس، وهو شاعر تورينغيان (من ولاية تورينغن الألمانية) وابن بلدة آنا ماري شيمل أنْ لفت النظر لهذا الوضع وأجمله في مقال مشهور له عن “العالم المسيحيّ أو أوروبا” قبل أكثر من مئتي سنة. ووفقاً لما جاء في المقال فإن النقد التّنويريّ- ومن خلال “دُعاة التّجريبيّة”، كما يُسميهم نوفاليس- لا يتوقف عند نقد الدين، إذ كثيراً ما كان يحق له ذلك، وإنما “يطول كذلك كل ما هو حماسيّ، ويُندد بالخيال والأحاسيس، وبآداب الأخلاق وحُبّ الفن. فقد كان أنصار التّيار التّجريبيّ يعملون باستمرار ودون هوادة على تَطَهير الطّبيعة والنّفس الإنسانيّة والعلوم مِن الشّعر– وإبادة كلّ أثر للمقدس، وتجريد العالم من كلّ ما هو مُنمَّق”.8 نوفاليس ألقى هذه الكلمة أثناء الملتقى الشّهير للرومانسيين الأوائل (أنصار الرُّومانسيّة المُبكرة) في نوفمبر من سنة 1799م بِمدينة يِنا، غير بعيد من هُنا. أما صديقه فريدريش شليجل الّذي سافر بعد سنوات مِن مُلتقى يِنا إلى باريس، لِدراسة الفارسيّة والسّنسكريتيّة، كَتَبَ مِن ناحية أخرى في مجلة الأثينايوم: “علينا أن نَبحث في الشّرق عن الرُّومانسيّة في أعلى مَراتبها”9، داعياً إلى ترجمة الشّعر الهندي– وهو بالضبط ما عَمَدتْ إليه في وقتٍ لاحق آنا ماري شيمل، إذ أقدمت على ترجمة الشّعر الهنديّ الإسلاميّ. وهو ما يدخل في سياق مطالبة شليغل بـ “شعر عالميّ تقدميّ”، وَتَطَلع نوفاليس إلى “إضفاء الطّابع الرّومانسيّ على العالم”- وكلاهما تصوران يسعيان إلى إعادة السحر للجماليات، وخلق حلقات ترابط تُسهل عبور الحدود وتسهم في نظرة شموليّة للأشياء تُلغي الانقسامات والانشقاقات المُصطنعة بما في ذلك السياسية.
وبالفعل كان يوهان جيورج هامان، مُعلّم هيردر، يعتبر الشِّعر “لُغة الله الأمّ للجنس البشري”10. كما أنّ فريدريش ريكرت الذي استشعر أهميّة الشِّعر قال في ذلك قولاً أصبح مثلاً يروق لآنا ماري شيمل الاستشهاد به، وهو أن “الشعر العالمي لوحده مُصالحة للعالم”.11 وبعيداً كلّ البعد عن النظرة ذات الصّبغة الرّومانسيّة والغرائبيّة والغيريّة تجاه الشّرق كما تكرّست لدى هيردر والرومانسيين، انبرتْ آنا ماري شيمل تُوضح ماذا بوسع نظرة تقليديّة كهذه أن تُحقق في عالم مُتعولم. وإنَّ للحماسة الرُّومانسيّة بانصهارها في العمل التّرجميّ الحي والملموس -كما هو الشّأن لدى آنا ماري شيمل- فضل كبير في تَصوّر مُوسَّع بوضوح لأدب العالميّ.
وإنَّ للحماسة الرُّومانسيّة بانصهارها في العمل التّرجميّ الحي والملموس كما هو الشّأن لدى آنا ماري شيمل فضل كبير في تَصوّر مُوسَّع بوضوح للأدب العالمي
وقد كان في ترجمتها للأعمال الشّعريّة والجوانب اللُّغويّة مكانةفالنظرة السّائدة والأورو-مركزيّة الدّلالة، للأدب العالميّ فيما مضى (السّارية حتّى يومنا، هذا إذا ما انطلقنا مِن وجهة نظر تجاريّة)، تَمَّ تبديدها وإحباطها ليس فقط بترجمة الكلاسيكيين، كما كان عليه الحال أيام ريكرت، وإنما بترجمة الأدب المُعاصر، كما أشرت إلى ذلك آنفاً. خاصة تُؤثر كثيراً في الجانب الجماليّ، فمن بين كلّ المُستشرقات والمُستشرقين الذين أعرفهم، كانت آنا ماري شيمل أشدهم إدراكاً لجماليات الإسلام مُشَكِّلةً بذلك، أخيراً وليس آخراً، حلقة وصل للجيل التالي، ولا سيما للجيل الصاعد من الباحثين منذ التسعينيات، من أصول مسلمة، ودرس بعضهم وتتلمذ على يد شيمل نفسها.
التَّصوف
إنَّ الاهتمام بِجماليّة الإسلام لدى آنا ماري شيمل كان شديد الاتساق مَع اهتمامها بالتّصوف. هناك مَن راقَ له فهم ذلك ولأول وهلة عَلى أنّه شيء غامض، مَليء بالألغاز ولا يمت للمنطق بأيّة صِلة، وعَلى أنَّه مُضاد للعقلِ، والحداثة، والعقلانيّة،والتّطور.. إلخ؛ إلا أنّ هذا يعود بالأساس إلى الصّورة المُشوّهة الّتي يُقدِّمها خُصوم التَّصوف مِن العلمانيين والأرثوذكس عَن التَّصوف، ولا علاقة لها البتة بِخصائصه الحقيقية. فالتصوف لو أخذناه مِن وجهة نَظر تاريخيّة فلا هو مُضاد للعقلانيّة ولا هو مُقيِّد لها، بل هو توسّيع وإعمال للعقل والمنطق، ولم يُصبح مثيراً للاستغراب إلا بمجيء العلمانيّة. فالكثير مما كان يُصنف تحت مفهوم ومُصطلح التَّصوف، أصبح اليوم بإمكاننا إدخاله في خانة العلوم الإنسانيّة وإلحاقه بِمجال الأدب والفلسفة وعلم النّفس أو الأخلاقيات. وكما هو الشّأن بالنسبة للعلوم الطّبيعية فإنّ عقلانيّة التَّصوف تعتمد نَماذج وفرضيات.وكما هو الشَّأن بالنسبة للعلوم الطّبيعية فإنّها تَبني– بالمعنى التّام لِمفهومِ البنائيّة– حقيقة، وذلك بطريقةٍ قابلةٍ للجدالِ والمُناقشة والحوار والخلاف والبرهان، أي قابلة لكلّ أنماط الاستدلال. وعن أشكال هذه النّماذج والفرضيات والتّركيبات ومعايير الاستدلال عند المسلمين تُطْلِعنا آنا ماري شيمل في مؤلفها الكلاسيكيّ عَن “الأبعاد الصُّوفيّة في الإسلامِ”.
إمبراطورية المَغول
وإلى جانب الميزات والخاصيات الأخرى التي تتمتع بها آنا ماري شيمل، يُضاف اهتمامها بشبه القارة الهنديّة الّتي طالما ظلت في دراسات الفكر الإسلاميّ وأجزاء مِن العلوم الإسلاميّة المكتوبة باللّغة الألمانيّة بكلّ أسف مُهمَّشة. فالاهتمام الخاص بالعالمِ الهنديّ الإسلاميّ الّذي حَظيتْ بهِ إنجازاتها مِن خلال إنشاء كُرسيّ للأُستاذيّة خُصِّص لهذا الجزء مِن العالم، يُشكّل علاوة على ذلك نُقطة تقاطع لا يلتقي فيه الصّوفيّ بالجماليّ مُباشرة فحسب، بل يمتزجان مَعاً، كما يتجلَّى لنا ذلك ونعاينه حتّى يومنا هذا في روائع المعمار المغوليّ. نَذكر على سبيل المِثال لا الحصر تاج محل في أغرا أو مسجد وزير خان في مدينة لاهور وإن كان يصغره بكثير ويقل عنه شُهرة، لكنَّهُ لا يقلُّ عنه روعة، والأمر نفسه ينطبق كذلك على كنيسة سيستين. فمناطق شاسعة من الهند كانت لأكثر مِن نِصف قرن تحت السّيطرة الإسلاميّة، ويجب أن تضاف إليها بطبيعة الحال باكستان وبنغلاديش، اللتان لم تنفصلا عن هذه المناطق التاريخية إلا بالقوة بعد نهاية الهيمنة الاستعماريّة البريطانيّة. كانت سلطنة المغول أقوى وأشهر إمبراطورية قامت في شبه القارة الهنديّة، وقد عَرفت أوج ازدهارها في القرنين السّادس والسّابع عشر. وقد خصصت لها آنا ماري شيمل كتاباً بعنوان “إمبراطورية المغول العظمى”، الّذي تَفْتعلُ فيهِ القوميّة الهندوسيّة في الهند في الوقت الرّاهن مَتاعب قضائيّة جمَّة. وفي فترة الإمبراطوريّة المَغوليّة هذه نشأت واضمحلت ثقافة انصَهرتْ وتمازجت فيها الصُّوفيّة بالجماليات بطريقة خَلاّقة. وَمِن الأمور المَغمورة حتّى يومنا هذا هو أنَّ المَغول كانوا قد تشبّعوا بِتقاليد تَمتَد مِن العُصور اليونانيّة القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط عَبر الإمبراطوريات العربيّة والفارسيّة في القرون الوسطى إلى حدود الهندوسيّة والبوذيّة اللتين تأثرتا بدورهما بِطابع الحضارة والثَّقافة الهيلينيّة مُنذ حَملة الإسكندر الأكبر العسكريّة عَلى آسيا. ومِن المَعروف أنّ الإسكندر بِحسبِ ما تُقدّمه المَصادر الإسلاميّة القديمة ووفقاً لِبعض المُفسّرين المسلمين التّقليديين يُنْزَلُ بِمنزلةِ النّبيِّ أو الملك الصّالح لِدرجة أنّه ذُكر في القرآن، في سُورة الكهف، في الآيات رقم (83-89). وأهم مَلحمة شِعريَّة تَسردُ الحياة الأُسطوريّة للإسكندر تعودُ إلى “نِظامي” وهو أعظمُ شاعر مَلحميّ في الأدبِ الفارسيّ، عاش في القرن الثّاني عشر. وهي متوفرة الآن باللّغة الألمانيّة بفضل التّرجمة الرائعة ليوهان كريستوف بيرغل، أحد تلامذة آنا ماري شيمل وزملائها.
وَمِن الأمور المَغمورة حتّى يومنا هذا هو أنَّ المَغول كانوا قد تشبّعوا بِتقاليد تَمتَد مِن العُصور اليونانيّة القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط عَبر الإمبراطوريات العربيّة والفارسيّة في القرون الوسطى إلى حدود الهندوسيّة والبوذيّة اللتين تأثرتا بدورهما بِطابع الحضارة والثَّقافة الهيلينيّة مُنذ حَملة الإسكندر الأكبر العسكريّة عَلى آسيا
وقد عمدت الفلسفة والتصوف العربيان والفارسيان اللذان حظيا بعناية فائقة إبان الإمبراطورية المغولية وترجع جذورهما إلى العصور القديمة المتأخرة للأفلاطونيّة المحدثة إلى مزج هذا التأثير القديم بالتقاليد ما بعد القرآنية والتقاليد المحلية لتخلق بذلك مزيجاً ذا طابع كوني صوفي وروحاني. واللّغة المُشتركة لهذه الكونيّة كانت هي الفارسيّة، اللّغة الشّعريّة لِحافظ والروميّ، وكانت متداولة أكثر من نصف قرن لدى الأدباء والمتصوفة من ساراييفو حتى دلهي، وكانت لُغة بلاط المغول؛ حيث كان يتعين على كلّ موظف استعماري يُفكر في الارتقاء في سِلك الوظيفة أن يتعلّم الفارسيّة.
أصداء في ألمانيا وأوروبا
الواقع أنّ تطور الفكر التّاريخيّ كما تَرَسَّبْ لدينا مِن خِلال شَخصيات مِثل هامان، هردر، شيلبنغ، هامر-بورغشتال، غوته، نوفاليس، وريكرت، كان ومنذ القدم ذا علاقة بالأفلاطونية القديمة والأفلاطونية القديمة المُتأخرة والمُحدثة، وكان يرتبط بطبيعة الحال بالتاريخ والتّصوف الإسلاميين وبالجماليات الإسلاميّة الّتي نحن بصدد الحديث عنها. وبناء على ذلك فلا يستبعد أن تكون آنا ماري شيمل قد عثرت زمن طفولتها في إيرفورت على آثار لهذه الصورة من العالم في كتابات ريلكه، ريكرت والحكايات الشّرقيّة أو تكون قد صادفتها كذلك عند كوستاف فرايتاغ أو في تاريخ الأدب العالميّ القديم ووجدت مؤانسة في شخص “كريشنامورتي”، الشّاب الهنديّ “الغورو” الذائع الصّيت عالمياً آنذاك، الذي أضفى الثيوصوفيون عليه صبغة “المُعلّم الرُّوحيّ”، أولئك الثّيوصوفيون الذين لم تكن أفكارهم أغلب الظّن غريبة على والدَيْ شيمل. وعن كيفية نقل عوالم الإسلام إلى أوروبا الوسطى فقد سبق لي وأسلفت ذكره: إنّه كان بتأثير من الحركات الاستعماريّة التّوسعيّة التي نشأت في آسيا خلال القرن الثامن عشر. فالثراء الثّقافيّ الوافد من القارات المستعمَرة عرف احتكاكاً مع تقليد تصوّفيّ كان قائماً في ألمانيا قبل الرّومانسيّة بكثير، جسّده لتورنغن على سبيل المثال مايستر إكهارد ومارتن لوثر من قبل لينتقل بدوره عبر الفلسفة اللاهوتيّة المتأثرة بمؤثرات عربيّة ويتجذر في فلسفة العصور القديمة المتأخرة. في الرّومانسيّة المُبكّرة وجد تاريخ الأفكار هذا امتداداً حازماً ومتدبراً يُساير الزمن. “الغوص في أعماق النفس طريق مجهول المعالم، مليء بالأسرار”، هكذا كَتبَ نوفاليس في الجزء السادس عشر من “لقاح الأزهار”: “ولا مكان للخلود بعوالمه ولا للماضي ولا للمستقبل إلا في داخلنا. فالعالم الخارجي عالم الظل، يلقي بظله على مملكة النور.” وانطلاقاً من هذه الأطروحات فإن “الطريق المجهول المعالم” كان في الشرق بالنسبة للرومانسيين المبكرين مُتاحاً وفي المتناول، وقد سار عليه فريدريش شليغل، أفضل صديق لنوفاليس الذي رحل سنة 1802م إلى باريس لدراسة الفارسيّة والسنسكريتية وأصدر عام 1808م، كتابه المؤثر “حول لغة الهنود وحكمتهم”، وأصبح أخوه أوغوست فيلهيلم شليغل فيما بعد مؤسساً لعلم الهنديات الألمانيّ.
وهناك أخ ثالث أكبر للإخوة شليغل وهو كارل شليغل الذي خدمَ في الجيش الاستعماريّ البريطانيّ في الهند، وتوفي سنة 1789 في مدينة مدراس الهنديّة. بوسعنا هنا أن نتصوّر كيف أنّ الحركات الاستعماريّة والاهتمام الثقافيّ بـ”الشرق” ينفذان أحياناً في تداخل تام حتّى أعماق العلاقات العائليّة. وسنوات قليلة بعد كتاب شليغل عن الهند وفي سنة 1814 بدأ يوهان فولفغانغ غوته بالاشتغال على “الدّيوان الغربيّ-الشّرقيّ” الّذي استوحاه من أعمال الشّاعر الفارسيّ حافظ الّتي قرأها مِن خلال ترجمة لهامر- بورغشتال. في الوقت نفسه بالضبط يستعير شاب فيلسوف طَموح من معارف غوته، من المكتبة الدوقيّة في مدينة فايمر كتابين ضخمين ومعقدين في ذات الأوزان حول الترجمة اللاتينية لأقدم فلسفة هندية للأوبانيشاد. وقد أُصْدِرا سنة 1802م من قبل رحالة فرنسي جاب بلاد الهند يُدعى أنكوتيل دوبيرون. الكتابان كما نرى كانا بدورهما نتاجاً للاستعمار. هذه الترجمة إلى اللاتينية لم تكن من السنسكريتية، اللّغة الأصلية للأوبانيشاد، وإنما من الفارسية التي كانت لُغة بلاط المغول كما سلف القول. فالأوائل الذين ترجموا كتاب الحكمة الهندي هذا، قبل مطالبة فريدريش شليغل بذلك بكثير، هم بالتالي المسلمون في الهند وليس الأوروبيون. والمغول هم أيضاً من ترجموا أعمالاً هنديّة مَشهورة حتّى قبل أن يسمع بذلك أيّ شخص في أوروبا: بهاجافاد-غيتا وكذلك مهاباراتا. وقد جاءت ترجمة هذه الأعمال اعترافاً منهم بتساوي الحكمة الهنديّة في المرتبة، ورغبةً في ادماجها في الصّوفيّة. هذا ما كان يسري خصوصاً على الأوبانيشاد اعتقاداً منهم بالعثور في ذلك على الحكمة الصّوفيّة، بل حتّى على القرآن. وقد ترجموا الأوبانيشاد بروح صوفية على الطّريقة الّتي فهم المتصوفة المسلمون بها هذا الكتاب. ولكن وقبل قرون متعددة، حوالي مطلع الألفية، قام المؤرخ وعالم الطّبيعيات العربيّ المشهور، البيرونيّ، بترجمة “اليوغا سوترا” كما أجرى مُقارنات عِدة بين المتصوفة واليوغيون.
وتَرجمة الأوبانيشاد إلى الفارسيّة لم تكن بدورها محض صدفة، إذ جاءت في ذات الوقت الذي كانت فيه أشغال بناء “تاج محل” قائمة على قدم وساق– علاوة على أن مترجمها لم يكن سوى الأمير “فدارا شكوه”، ابن الأميرة “ممتاز محل” التي شيد الملك شاه جهان إبان فترة حكمه إلى جانب جده “أكبر والدي” كان من أشهر أباطرة المغول، ضريح تاج محل الرائع الصنع تخليداً لذكراها. وفي حلتها اللاتينية وجدت ترجمة الأوبانيشاد المسلمة الفارسيّة طريقها إلى أرتور شوبنهاور، الفيلسوف الشّاب الطّموح وابن فايمار وطبعت فكره وكتاباته الفلسفيّة بشكلٍ عميقٍ، وهو ما انفك يردده باستمرار حتّى آخر أيامه. وما لم يكن ليتوقعه شوبنهاور وقتها هو أنّه لم يكن يقرأ الأوبانيشاد في ترجمتها اللاتينيّة وإنما بناءً على ترجمتها وتفسيرها وتحوّيلها المسلم. فما كان يعتبره شوبنهاور هنديّاً وهندوسيّاً، لم يكن في حقيقية الأمر وعند إنعام النظر فيه سوى تفسير صوفيّ مسلم للمصدر الأصليّ المؤلف بالسنسكريتية. هذا ما يسري بالخصوص على فكرة المايا الّتي ترد في التّرجمتين الفارسيّة واللاتينية بمعنى الحب والرغبة والإرادة، وهي المعاني التي أثرت في مصطلحات شوبنهاور بشكل حاسم. وكما هو معروف فإن أهم مؤلفاته تحمل عنوان: “الحياة إرادةً وتمثلاً”. فمسألتا الخيال والواقع في إدراكنا للحقيقية ووعينا بها، وتتأسس عليهما فكرة مايا، كانتا الدافعين الأساسيين لإفتتان آنا ماري شيمل منذ طفولتها بـ”الشرق” الذي عالج هذين الموضوعين وتعامل معهما بشكل مكثف مقارنة بالفكر الأوروبيّ. “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”، هذه هي المقولة المسلمة التي كانت وراء إثارة اهتمامها بالشرق، تقول آنا ماري شيمل مستحضرة لحظات من ذكريات طفولتها.
في سياق تاريخ الفكر
يتعلق الأمر هنا بواحد فقط من الأمثلة الكثيرة والمتعددة لما مارسه “الشرق” فكراً وثقافةً من تأثير باهر على أوروبا أوائل القرن التاسع عشر، بغض النظر عن فهمنا له؛ سواء كان هنديّاً، أو مُسلماً، أو فارسيّاً، أو عربيّاً، أو تركيّاً. كما يتعلّق الأمر أيضاً بقوة هذا التأثير واستمراريته إلى حين لحظة تأثر آنا ماري شيمل في آخر المَطاف به واتخاذ مصادر ومنابع هذا التأثر وخاصة المسلم منه مادة لدراساتها وموضوعاً لأبحاثها، وهو ما تمّ طبعاً دون أن تستخلص بالضرورة أي استنتاج للتأثيرات المُسبقة على شخصها أو على عبقريّة مكان الرّومانسيين الأوائل والمتصوفة المحليين.
والحق أننا لم نتعوّد على استخلاص استنتاجات مِن قبيل الاعتراف بالمؤثرات الخارجيّة وإلا وجب علينا الاعتراف بأن الآخر/ غير -المفترض الشرقي في هذه الحالة– لم يعد ومنذ مئتي سنة شيئاً آخر ولا غيرياً أو غريباً وإنما أصبح جزءاً “مِنّا” (بين علامتي تنصيص). ومن ثم وجب علينا أن نعترف أن لهذا الغير والآخر الوهمي ومنذ وقت بعيد تأثيراً علينا وأننا نَمَوْنا وترعرعنا معه، وبفضله أصبحنا رومانسيين مُعَوْلمين، بل وحتى “عصريين” وأنه لا يحق لنا بأي حال من الأحوال أن ندّعي التفوق، لا التقدم ولا التطور أو “الاستقلالية” في التعامل مع “الباقي” الوهمي من العالم.
وفي أعمال آنا ماري شيمل تكتمل في آخر المَطاف دائرة أفكار وإن كانت لأول وهلة تظهر على أنها غريبة، مسلمة إلا أن جذورها شديدة التشابك والتداخل مع كلٍّ من تاريخ الفكر الأوروبيّ وكذا الآسيويّ. ومن هذا المنطلق فإن آنا ماري شيمل لم تدرس الغريب المجهول، بل درست الشق المنسي والمكبوت من تاريخ ثقافتنا، الذي كان على الدوام مُتأثراً بعوامل وثقافات وافدة على أوروبا أو خارجة عنها. وإنّي لأغبط آنا ماري شيمل على أنها عاشت وعملت بلا تردد في هذا السياق بأريحية وبديهية وهو الشيء الذي لم نفلح نحن الجيل اللاحق في الإتيان بمثله وتقليده، فالاستعمار الذي لم يكن في خاتمة المطاف سوى صراع فكري وعقائدي يسعى بالأساس إلى هيمنة أوروبية، وإرساخ تنويرية حديثة مهيمنة وشاملة، وما لازمها من عُنصريّة، وما نتج عنها وعقبها من نقد كثيراً ما كان مُحقّاً كالذي اعتمده إدوارد سعيد المذكور آنفاً، هذه كلها كانت عوامل أثرت بشكل لم يسمح لنا باللحاق بهذا التقليد كما كان متاحاً في وقت سابق لآنا ماري شيمل. ونحن نستعرض أعمال آنا ماري شيمل بعد مرور مئة عام على ميلادها ينكشف لنا بأن هذه هي الفجوة التي علينا أن نعمل على تخطيها إنْ كنا بالفعل نحرِص على بناء مستقبل مشترك يستحق العيش، وقراءة آنا ماري شيمل خير مدرسة تمهيدية لذلك.
المصادر:
١- في 25 سبتمبر 1943، قامت هي والدكتورة آنا ماريا فون غابين، بتدوين محاضر الاجتماع العام السنوي للجمعية الشرقية الألمانية، كما سجلت ZDMG، المجلد 97، العدد 2 من عام 1943، الصفحة 357. والدكتورة آنا ماريا فون غابين (1901-1993) كانت عالمة في مجال الدراسات التركية، ومعلمة لآنا ماريا شيميل أثناء الحرب. عانت حياتها المهنية اللاحقة نتيجة مشاركتها في مشاريع علمية ذات أجندة نازية. بين عامي 1950 و1966 كانت أستاذة مشاركة في جامعة هامبورغ. المزيد عن أ.ف. جابين على: https://berlingeschichte.de/bms/bmstxt99/9906proe.htm.
أيضاً: شيميل، آنا ماريا: حياتي الغربية والشرقية. م. بيك فيرلاغ، ميونيخ 2002، ص 48.
٢- وكذلك مجموعة مختارة واسعة من القرآن وترجمته المستقلة تحت عنوان “القرآن للأطفال والكبار” من تأليف لمياء قدور وربيعية مولر، سي.إتش. ويستحق أن يُذكر أيضاً في هذا السياق، صادر عن Beck Verlag في عام 2008.
٣- شيميل، آنا ماريا: الشّعر العربيّ المعاصر، ألمانيا، دار هورست إردمان، توبنغن 1975.
٤- فايدنر، شتيفان (محرر ومترجم): لون المسافة، الشعر العربي الحديث، دار النشر بيك، ميونيخ 2000.
٥- لمزيد من المعلومات: شتيفان فيلد: جائزة السلام وآن ماري شيمل: مراجعة. في: عالم الإسلام، المجلد 36، العدد 1 (مارس 1996)، ص 107-122. وكذلك عن الخلفية التاريخية المعاصرة: كاي حافظ: صورة الإسلام لدى الجمهور الألماني في: المجتمع الجديد. محفوظات فرانكفورت. العدد 5، 1996، المجلد 43، ص 426-432.
٦- فايدنر، شيفان: نقطة الصفر؛ 11 سبتمبر وولادة الحاضر. دار هانسر للنشر، ميونيخ 2021.
٧- سعيد، إدوارد: الاستشراق. كتب دار بانثيون، نيويورك 1978.
٨- نوفاليس: الأعمال الكاملة، المجلد 2، أد. هانز يواكيم مال، دار هانسر للنشر، ميونيخ 1978، ص 764.
٩-أثينايوم، المجلد 3، ص 103.
١٠-هامان، يوهان جورج: الأعمال الكاملة، أد. بقلم جوزيف نادلر، دار هيردر للنشر، فيينا 1950، ص 197.
١١- من بحث “Schi King Vorspiel”، المجلد الأول، ص 341 في مجموعة ركرت، المكونة من مجلدين ونشرتها شميل في دار النشر إنزل، فرانكفورت، 1988.
شتيفان فايدنر
عالمٌ في الدّراسات الإسلاميّة والعربيّة، وكاتب، ومترجم، ومدير مجلة فكر وفن المعروفة سابقاً، ومُحكِّم للعديد من الدّوريات والكتب، وعضو اللّجنة الاستشاريّة لِمجلة الدّيوان الثّقافية، ومُراجع النسخة الألمانية من المجلة، وحاصل على جائزة الشّيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي للعام 2018م.