بعد وصولي إلى ألمانيا بسنة، وفِطامي القسريِّ عن حياتي الأليفة في بلدي، وانهماكي في دروس اللُغة الألمانية، ومحاولاتي بانتشال نفسي من آثار الحرب، وبينما تنهش قلبي الوحدةُ والحزن والحنين إلى بلدي وأهلي، هاتَفني أبي على غير ميعاد. قال لي: “يا بنتي، نحن نؤمن بأنَّ الله خطَّ أقدارنا في لوحه المحفوظ، وقد قدَّر عليكِ أن يكون ماؤك وزادك في بلدٍ اسمه ألمانيا. لا تحزني، لا تعاندي قدرك!”.
نزل كلامه عليَّ برداً وسلاماً. لم يصرِّح لي بتفصيلٍ مما عليَّ أن أفعل، لكنه أعاد إليَّ المِفتاح الذي أواجهُ به قدَري من غير عِناد، أديره في الباب فأدخل إلى عالم الرواية التي طالما كانت لي وطناً وبيتاً وأهلاً، وهو ما أصبح عليه حالي وأنا أكتب رواية: “خيط البندول”.
سأبدأ من العنوان: في رواياتي السابقة، لم أعثر على اسمٍ أرتاح إليه إلا بعد الانتهاء منها، أما روايتي هذه فهي الوحيدة التي اخترتُ لها اسماً وحيداً وراسخاً من قبل أن أبدأ بكتابتها، ولم أكن مستعدةً لاستبداله بأي اسمٍ آخر. أسميتها: “ولكنها تفاحة..”! واكتملت ووصلت إلى المحرر في دار هاشيت أنطون وهي تحمل هذا الاسم. لكنَّ المحرِّر ومديرة التحرير توافقا على أنَّ هذا الاسم مبهم ولن يخدم الرواية. تجادلنا طويلاً، ثم غلباني بالحُجَّة حتى وُلدت باسمها الجديد: “خيط البندول”، ولشدَّة اشتغال القراء والمقالات المكتوبة عنها بهذا العنوان، أعترف أنَّ دار النشر كانت على حق!
كانت فكرة الرواية حاضرةً في ذهني منذ سنوات، ومستمدة من وحي مهنتي في الطِّبِّ، أردتُ أن أرسم صورة الطبيب المتخصص بالنساء والولادة بوصفه إنساناً من لحم ودم ومشاعر، وليس كما يراه الآخرون مهنيّاً صارماً ومحايداً، فيحكمون عليه إما بالتقديس أو بالذمِّ الظالم. ومع فكرة الطبيب المتخصص بالنساء بوصفه إنساناً تحضُرُ فكرة الأمومة جزءاً من تكوين النساء، ولا تقتصر حقّاً على الأمومة البيولوجية. كيف عليَّ إذن أن أكوِّن شخوص روايتي بما يحقِّقهما؟
كانت فكرة الرواية حاضرةً في ذهني منذ سنوات، ومستمدة من وحي مهنتي في الطِّبِّ، أردتُ أن أرسم صورة الطبيب المتخصص بالنساء والولادة بوصفه إنساناً من لحم ودم ومشاعر، وليس كما يراه الآخرون مهنيّاً صارماً ومحايداً، فيحكمون عليه إما بالتقديس أو بالذمِّ الظالم
انتقيتُ لروايتي شخصيتين رئيستين: “أسامة” الطبيب المتخصص بالنساء والولادة الذي يقع في حُب صبيةٍ اسمها “نداء”، تجذبه بوعيها وعقلها، وتُبادله نداء الحب، وتشتعل رغبتها بالأمومة لتلد طفلاً على صورة هذا الزوج الحبيب، وتسعى بكل طاقتها، وعلى امتداد خمسة عشر عاماً، لتحقيق مُرادها. ولكن: كيف سأختبر مقاربة هذين الزوجين معاً لمشكلتهما بوصفها فكرةً سامية ومعقَّدة، وبوصفها مشكلة شخصية وعائلية، وكذلك مهنية من وجهة نظر الطبيب؟! وكيف سأنهي حكاية الزوجين الحبيبين؟ هل أجعلها سعيدة؟ أم حزينة؟ أم واقعية؟ من أجل هذا أحضرتُ لهما فكرة الطفل الناجز، “آدم” الذي يقتحم حياتهما فجأةً، ويستحوذ على رواية “خيط البندول” منذ التوطئة إليها حتى آخر فصلٍ فيها. وحشدتُ حولهما عائلةً وجيراناً وأصدقاءَ وزملاءَ عملٍ، تصخب بهم الرواية كصخب الحياة، كعالمٍ موازٍ لعالمنا الأرضيِّ، وتَصقُلهم تجارِب الحياة ليسيروا معاً إلى مصائرهم. وأبطالي هؤلاء الذين صنعتهم في روايتي اجتمعوا في غرفتي واستباحوها. ظلَّ رأسي يَضِجُّ بهم على امتداد الرواية، سرقوا مفتاح بيتي وأخفَوه عني، منعوني من الخروج من عالمهم إلى عالمنا الأرضي طوال كتابة الرواية، ونجحوا! كنت أبكي مع “نداء” بعد كل محاولةٍ فاشلةٍ لإنجاب طفل، أنسج لها سرد المحاولة التالية وأصارع نفسي، أريد أن أمسك بها من كتفيها وأهزها: أفيقي، ماذا تفعلين بنفسك؟ لكنها ترفض أن تسمعني، تدير لي ظهرها وتمضي إلى هدفها.
كذلك تملَّكتني شخصية “فريدة”، وهي صديقة “نداء”، والوجه الآخر لها لو لم تكن الأخيرة قوية بما يكفي لتكمل مشوارها. وكلما تذكرت كيف اتخذتُ في روايتي قراراً بقتل فريدة، تُعاود قلبي الرِّعشة! حسمتُ مصيرها بأن سلَّطتُ عليها سرطان المَبيض، القاتل الغادر، نبتَت للكلمات التي قتلتُها بها أسنان تجرح أصابعي أنا، وحين أسلمَت فريدةُ روحها ومدَّدوها جثماناً يبكون عليه، كانت روحي أنا تبكي عنهم جميعاً. أطبقتُ دفتَيْ حاسوبي وجلست أبكي وأشهق كمن تبكي صديقة عمرها التي قتلتها بيديها ولن تراها بعد اليوم، وإلى الأبد. مرَّت بعدها أيامٌ لا أستطيع العودة فيها إلى الحاسوب حيث ترقد شواهد جريمتي؛ فريدة التي ظلَّ طَيفها رفيقَ “نداء”، وكذلك الدكتور أدهم الذي رحل عن موسكو تاركاً فيها ابناً له لم يرَه قَطُّ، ولم يفارقه طَيفُه طوال عمره الآتي، ومثلهما فريد وصلاح اللذان أحبّا فريدةَ معاً وخسراها معاً، ولم يلتق أحدهما الآخر ليبكي على صدره، وكذلك “بنفسج” والدة “نداء”، التي قاتلَت بصمتٍ وصبر لتُنقِذ أولادها.
وأيضاً في حكايتي مع “وردة” في الرواية، وهي قصةٌ حقيقيةٌ لامرأةٍ تحمل اسماً آخر في الحياة، ائتمنتني عليه لأنها لا تريد لحكايتها أن تموت أو تذهب طيَّ النسيان. وردة التي لم يحمل قلبها سوى الحب، ولم تمنحها الدنيا سوى الحرمان، وأجبرتني الضرورة على أن أستثني من الرواية حكاية زوجها نمر الذي استمرَّ في ظلمها من بعد ظلم أهلها وجَدَّتِها، وحين تاب وبدأ يُدلِّلها خطفه الموت، وكأنني فرَّقتُهما في الرواية أكثر مما فرَّقتهما الحياة.. خفتُ أن تغضب مني وتصرخ في وجهي: “لقد خنتِ حكايتي!”، هل سيفيد أن أُسوِّغ لها إن التقيتها يوماً، أنَّ فنَّ الرواية صادقٌ في كذبه وأمينٌ في خيانته؟!
أيّاً يكن؛ فقد عشتُ معهم حيَواتِهم كاملةً، بكل لحظةٍ فيها، كأنهم أطفالي في بيتي، أبناء فكري الذين سيأتي يوم يودِّعونني فيه ويغادرون طفولتهم إلى الأبد، فلم أفوِّت لحظةً دون التأمل فيهم حتى يُلِحَّ آخرهم على إغلاق باب غرفتي من الخارج وينطلق إلى الحياة، أي إلى إرسال الرواية للنشر. مع طيِّ الصفحة الأخيرة داهمني الخَواء الذي يصيب المؤلِّف بعد انتهاء الرواية، كما وصفه إدواردو غاليانو: “وأبقى أنا مع تلك الكآبة التي نشعر بها جميعاً بعد الحب، وعند انتهاء المباراة..”، هي ذي دورة حياة الروائي، تتناوب بين خواءٍ شديد بعد الانتهاء من رواية، وامتلاء شديد عند البدء بالرواية التالية، ولا مهادنة بينهما!
ثمة أمرٌ آخرُ واجهتُه في رواياتي السابقة، واستمرَّ يحضر وأنا أكتب “خيط البندول”، وهو لهاث القُرَّاء لاكتشاف شخص الكاتب، كيف هو في الحياة، وخلف أيٍّ من أبطاله يتخفَّى ويُطلق أفكاره؟ في الحقيقة، ومن تجربتي الخاصة، غالباً ما يضعونه حيث يطيب لهم. لا يريد القُرَّاء أن يُصدِّقوا أنّ الكاتب الذي يحيا بينهم هو شخصٌ آخر، لا يشبه ذلك المحبوس بين أوراقه والسائر أبداً في أروقة روايته. لطالما كان الكاتب رهينةً طَيِّعةً لسطوة الكتابة، وغريباً حتى عن نفسه، وهو بالكاد يتعرف إليها، فكيف بالقرَّاء؟! كنتُ وأنا أكتب أكاشف نفسي، وأنتشل ما غاص في قيعانها، أَربِت على ألمي الخاص، وأتابع تمريني على الصبر. وكم خفَضت الكتابةُ من منسوب حزني ووحدتي، وكم أضاءت لي حلمي الشخصيَّ الأبديَّ: “أن أكافح من أجل الحياة لا الموت.. وكم عشتُ معها لَذَّةً لا يمكن وصفها، وكم سأفرح حين ستقع في أيادي قُرَّاء مجهولين، ربما حزينين ووحيدين مثلي، وسط متعة الحكاية التي تطرد الوحشة من نفوسهم وتَربِتُ على أكتافهم وتوقظ أجمل ما فيهم، ليعثروا على الجزء الذي يحبونه ويقدِّرونه في ذَواتِهم..”1.
1 عبد الصمد، نجاة: رواية خيط البندول، ط1، لبنان، دار نوفل، ت. 2022م.
د. نجاة عبد الصمد
كاتبة سورية، وطبيبة توليد وجارحة نسائية، مجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق كلية الآداب، وحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018، عن روايتها “لا ماء يرويها”، لها أبحاث ومقالات ومشاركات بحثية منشورة في مواقع الكترونية وفي صحف ومراكز دارسات عربية وعالمية، وندوات أدبية وطبية على منابر عربية وأوربية.