في مَطلع القرنين التّاسع عشر والعشرين رسّخت أعمال عبد الرّحمن الكواكبي (1855-1902)، وجُرجي حبيب زيدان (1861-1914)، حالة مِن فهم تاريخيّ لُغويّ، لِمرحلة ربّما ما زالت حاضرة في تاريخ الإنتاج الأدبيّ العربيّ، وهو أمر بمنزلة الإرث المؤثِّر فعليّاً، لِمن يبحث عن إنتاج عربيّ فتح الأبواب للانخراط في الحاضر، لمن يؤلِّفون ماضياً يرتكز على مفهوم الأدب العربيّ الحاضر ومعناه.
هذا على الأرجح ما لمسناه مِن تلك الفترة حتّى الآن، لكنَّها في الغالب روايات عن تاريخ الإسلام، إلّا إذا أردنا أن نفصل الأدب العربيّ، ومدى تأثّره بالقناعات الإسلاميّة والدّينيّة الأخرى المختلفة. بالأحرى كلّ ما من شأنه أنْ يستدعي حدود التأثّر والتأثير من روّاد العروبة التي بدأت آنذاك، وهذا بعيد جداً عن نهج الرّوايات الغربيّة وتحرُّرها من القيود التي تُكبِّل الإنتاج العربيّ الحاضر، الأمر الّذي يفقدها بريق الاهتمام الغربيّ، ويجعلها في قناعات الغرب أنَّها ما زالت طور النّشأة، وأغلبها هو انعكاس للمجتمعات الإسلاميّة، وليس العربيّة بشكل عام. مع ذلك تشكِّل نوعاً ما الحاجز الذي يمنعنا من التأثير في الغرب ككتّاب يحملون الهموم العالميّة دون نسيان المجتمع والمآثر الإنسانيّة قبل الإسلاميّة، ولكن بعيداً عن الحدود الضّيقة المرتبطة أولاً بالعروبة، ومن ثمَّ بالهويّة العربيّة بشكل عام. فأين نحن من هذا العصر، ومن لُغة النّظام الإلهيّ المُتفرّد في كينونته؟ بمعنى كسر النظُم القديمة المرتبطة بالعروبة والإسلام، ومنحها جسراً مُتجانساً لتلتحم بالغرب الذي يتطلّع لمعرفة كينونة هذا العالم الذي يجهله تقريباً، على الرغم من الترجمات التي نشهدها لكتّاب ربحوا جوائز البوكر، أو كتبوا باللغة الأجنبية، لكن ضمن خصوصيّة الانفتاح المرتبط بكتّاب عرب ولدوا، وترعرعوا في الغرب، أو عاشوا خارج مساحات بلدانهم، فكتبوا نصوصاً أشبه بالسيرة الذّاتيّة حول إقامتهم في فرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا وغير ذلك؟ فهل يمكن كسر حدود الفضاء الأدبيّ العربيّ الحاضر لينفتح عالميّاً في العصر الحديث؟ وهل النسيج القوميّ العربيّ يمنعنا من ذلك؟ وماذا عن مرارة نزار قباني الشّاعر السّوريّ ومظفّر النّوّاب العراقيّ؟
ما بين الهويّة والبعد السياسيّ تقوقع الإنتاج العربيّ الحاضر على الرغم من التصفيق الحارّ لأولئك الذين يمنحون القضيّة الفلسطينية أثراً أدبيّاً مثل تميم البرغوثي وقصيدته عن القدس، التي انتشرت انتشاراً هيمنَ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتخطّى حواجز غربية نوعاً ما على الرغم من أنّ ما قدَّمه (محمود درويش) يجسِّد قيمة التطلّعات العربيّة في خاصّيّة هي لأدب عربيّ محض جمع بين الهويّة والبعد السياسيّ، لتأكيد القوميّة العربيّة، وهذا لا يرضي المزاج الغربيّ الذي يبحث عن الخيال العلميّ، وعن الميثولوجيّات والجمال والفنّ والبلاغة العظيمة من أيام هوميروس ودانتي حتّى الآن.
ما بين الهويّة والبعد السياسيّ تقوقع الإنتاج العربيّ الحاضر على الرغم من التصفيق الحارّ لأولئك الذين يمنحون القضيّة الفلسطينية أثراً أدبيّاً
فهل دمج الإنتاجات الثقافيّة الأدبيّة في العالمين العربيّ والغربيّ يُثري كونيّة الأدب وشموليّته في عصر بدأنا نطلق عليه ما بعد الحداثة والانفتاح الرقميّ؟ أم إنَّ سحر الشرق تلاشى في عصر بات يُطلق عليه ما بعد الحداثة؟
مِن أجل الإجابةِ عن هذا السُّؤال، حاورنا مَجموعة مِن الكُتّابِ والكاتباتِ مِن عِدّة بُلدانٍ عربيّة:
نبدأ مع الدكتورة غزلان هاشمي، المولودة في مارس عام 1982م، وهي أُستاذة بِجامعة مُحمّد الشّريف مساعدية- الجزائر، ورئيسة تحرير مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية: إذا نظرنا إلى الراهن الأدبيّ والمعرفيّ العربيّ بصفة عامّة نجده يرتكز على معايير واتجاهات وحمولة فكريّة وخلفيّة فلسفيّة هي في الأصل نتاج غربيّ، حتّى وإنْ حاول الأديب تبيئتها وإخضاعها لهموم الإنسان العربيّ وللملابسات الثقافيّة والتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة داخل مجتمعاته، فإنّها تظلُّ رهينة الاستعارة وتعبيراً عن زمن الدهشة الذي لم يتحرَّر منه العقل العربيّ إلى اليوم. ولا أدلُّ على ذلك من تبنّي كلّ رؤية فكريّة أو مذهب أدبيّ أو نموذج وافد من الغرب ومحاولة محاكاته وتقليده دون إضافة، ودون مراعاة للسياق الخاصّ.
وحتّى الإلغاز الذي تعوّل عليه النصوص الأدبيّة الجديدة الروائيّة منها والشعريّة، هو امتداد للرؤية المركزيّة الغربيّة التي تعتبر أنَّ النموذج الغربيّ هو الأكمل، وهو مايجعلها في حكم الأفضليّة والموعودة بالشهرة والانتشار العالميّ، إذْ تحاول هذه النصوص إشراك المتلقّي في صنع نصّيات مغايرة بالاعتماد على عدّته الفكريّة وإمكاناته القرائيّة احتفاءً بموت الكاتب، وتمهيداً لميلاد القارئ المتألِّه/ السوبرمان، فالكاتب وهو يكتب محمَّلاً بهمومه الفرديّة والاجتماعيّة لم يستطع التحرُّر من عقليّة التطابق، وذلك ما يعبِّر عن مأزق نفسيّ وعن تشتّت الذات بين هويّة خالصة/ نقيّة، وأخرى متعدِّدة يفرضها السياق العالميّ، لذلك يصبح الآخر الغربيّ ماثلاً في نصوصه منظوراً إليه بوصفه النموذج الأسمى والأكمل.
هذا الأمر قد يؤدِّي إلى إنتاج المجتمعات الأدبيّة الرَّغَوِيّة التي لا تحتكم إلى معايير معيّنة، بل تحاول التعامل بمنطق التلفيق، وهو ما يؤدِّي إلى هُجنة أدبيّة تعبِّر عن اغتراب عام، ومحاولة ملاحقة اللحظة الغربيّة بوصفها لحظة عالميّة كلّية.لذلك لم يعد التساؤل الآن متمثّلاً في مدى تأثير الغرب في الثقافة العربيّة بقدر ما يكون: كيف للعقل العربي أنْ يتحرَّر من التأثير الغربي وخطاباته المُضمرة لأيديولوجيا التعالي وفوقيّته ومركزيّته، التي تردنا كلَّ يوم، وتنهال علينا مع انتشار تكنولوجيا التواصل والاتصال؟
فصعود الإسلام السياسيّ، على حدّ تعبير البعض، إلى سدّة الحكم في عدّة دول، ثمَّ المواجهات الدمويّة التي قوبل بها، وكذا انتشار الإرهاب العالميّ، وموجة تغيير الأنظمة الحاكمة التي طالت البلدان العربيّة، لفتت انتباه الغرب لهذا الشرق المنسيّ
إنّ تأثير الغرب في الثقافة العربيّة حقيقةٌ لا يمكن إنكارها، ويجب التّحلِّي بالشجاعة للاعتراف بها، لأنَّ أولى خطوات الحصول على الاستقلاليّة والذاتيّة الخالصة تمرُّ عبر هذا الاعتراف. ومن وجهة نظر عكسيّة وبعيداً عن النبرة الخطابيّة الحماسيّة، نعتقد أنَّه يمكن للأدب العربي المعاصر أنْ يؤثِّر في الثقافة الغربيّة حينما يحاول توجيه الاستعارات نحو تمثيل حدود الذات بعيداً عن الصبغة التلفيقية التي لا تؤدِّي إلّا إلى مزيد من الاغتراب فالاحتواء المفاهيميّ، أجناسيّاً أو فكريّاً أو موضوعاتيّاً، دون الأخذ بالاعتبارات الذاتيّة/ الهوياتيّة التي توجّه النتاج إلى العالميّة من خلال المحلّية، يصبح من قبيل الخواء الإبداعيّ والاعتلال الأدبيّ. وإن كانت لحظة الكتابة تتأسَّس على دهشة السؤال ضمن المعطى الوجوديّ، ومن ثمّ على الرؤيّة الاستشرافيّة التي تحاول أنْ تتجاوز الراهن من خلال كون إبداعيّ إنسانيّ عامّ، فإنَّ الامتداد زمنيّاً ومكانيّاً مرهون بطرح التحيّز جانباً، وكذلك الرؤية الاستعلائيّة/ الفوقيّة التي لا تحترم حدود الاختلاف، ولا تُعزِّز الحوار والتعدُّد.فالإرباك الحضاريّ الذي ينتج عن الرؤية الاتهاميّة في النتاج الأدبيّ العربيّ لا نتوقَّع منه تأثيراً على مستوى الثقافة الغربيّة، ولأنَّ منطق الحضارات يرتكز على الصبغة التراكميّة التي لا مفرَّ منها، فلا بدَّ من تخفيف النبرة الاندهاشيّة التي تضمرها النصوص الإبداعيّة، والاحتفاء بالهموم المحلّية ضمن المنزع الإنسانيّ الذي يبرز آمال الإنسانيّة، وهمومها،ومشاغلها وطموحاتها. والملاحظ في النتاج الأدبيّ العربيّ اليوم تجاوز الرؤية الضيّقة، ومحاولة التمسُّك بهذا الأمل المعبِّر عن الرغبة في تخطّي حدود الذات والتأثير في الآخر، مع الإسهام في صنع زمنيّة إبداعيّة تتجاور فيها الهويّات واللغات والنصوص وكلّ الممكنات دون نبذ وإقصاء وتعالٍ، وهذا ما يجعل الحديث عن صنع تأثير مستقبليّ في الثقافة الغربيّة ممكن التحقّق في لحظة زمنية موصوفة بإعادة الاعتبار للذات، التي تظلُّ في حكم الاحتمال، حيث لا تعوّل الذات على عكّاز فكريّ يقوِّم لحظتها، ولا تتحوّل إلى مجرّد وعاء فارغ يستقبل الاعتبارات الغيريّة فقط. ولا ننسى أنَّ كونية النصّ الإبداعيّ مع المتاحات الرقميّة أسهمت في الاطلاع على مختلف المنجزات الأدبيّة والثقافيّة والمعرفيّة، والإنسان الغربي منذ نشأة الاستشراق مهووس بمعرفة الآخر الشرقيّ، وعالمه المسيَّج بالدهشة والعجائبيّة والغريب، من وجهة نظره، بناء على المتخيّل العام، حيث أسهمت المدوّنات السرديّة القديمة في تعزيز هذه الرؤية، لذلك نجد تأثيرها في الإنتاج الأدبيّ الغربيّ من قبل، يصبح الحديث إذن عن احتماليّة التأثير مستقبلاً جائزاً مع تلاشي الحدود وسهولة التواصل، خاصّة قد شهدنا في الآونة الأخيرة تطوّرات دوليّة أعادت سؤال الذات الغربيّة في مقابل الآخر الشرقيّ إلى الواجهة.
فصعود الإسلام السياسيّ، على حدّ تعبير البعض، إلى سدّة الحكم في عدّة دول، ثمَّ المواجهات الدمويّة التي قوبل بها، وكذا انتشار الإرهاب العالميّ، وموجة تغيير الأنظمة الحاكمة التي طالت البلدان العربيّة، لفتت انتباه الغرب لهذا الشرق المنسيّ، والواقف على تخوم الهامش أو العدم، حيث بدأ الإنسان الغربيّ في نوع من الفضول المسيَّج بالحذر يبحث في تاريخه ويتعرَّف إلى ثقافته، وهو ما جعل حركة الترجمة تنتعش من جديد خاصّة مع الجيل الجديد من المترجمين. ففي 2010 مثلاً أقيمت ندوة في أثينا باليونان حول الأدب العربيّ بمشاركة أسماء فكريّة ونقديّة من الغرب ومن الدول العربيّة، حيث أكَّد المشاركون على استمراريّة تأثير الأدب العربيّ في الثقافة الغربيّة، بل حسَب ما ورد في بعض المنابر الإعلامية بيّنت الكاتبة اليونانيّة بيرسا كوموتسي التي عرفت بترجمة الآداب العربيّة أنَّ خصائص النصّ الأدبي المعاصر التي تمثّلت في الانشغال باليوميّ المعيش والهامشيّ والاهتمام بالتفاصيل البسيطة، كلّها أسهمت في اهتمام المترجمين الغربيّين به، وأزالت الصورة النمطيّة التي شكّلها الغرب عن الشرق الشهوانيّ اللاعقلانيّ المتخلِّف والسكونيّ، التي روّجتها من قبل المدوّنات السرديّة القديمة، واتخذها المستشرقون الأوائل معيارًا للحكم على هذا العالم المنسيّ”.
أمّا الروائيّ والمسرحيّ ورئيس تحرير المجلّة العربيّة عبد العزيز بن صالح الصّقعبيّ المولود عام 1958 في الطّائف في السّعوديّة: سؤال جدليّ عن التأثّر والتأثير، الثّقافة العربيّة وحضورها في الغرب، وأنا أقصد بالثقافة الحديثة بعيداً عن عوالم ألف ليلة والحضارة الإسلاميّة. تلك الثقافة كان لها تأثيرها قديماً، أمّا الآن ونحن نسأل عن الإنتاج الأدبيّ العربيّ وتأثيره في الغرب، فقد تكون الإجابة صعبة. فقبل كلّ شيء أين الإنتاج العربيّ ومدى حضوره في الدول العربيّة؟ نحن بهذا السؤال نعرِّي أنفسنا، ونجد أنَّ أكثر أهل المغرب العربيّ لا يعرفون كثيراً من الأدباء في المشرق، والعكس كذلك. نحن لم نصل بعد لأن يكون لنا حضورنا الأدبيّ في الداخل، إلّا من كان له حظّ الحصول على جائزة تحقّق له بعض الشهرة، فنحن لم نعرف مثلاً جلال برجس الأردنيّ ومحمد النعاس الليبيّ إلّا بعد فوزهما بجائزة البوكر العربيّة. وكلّ عام نتعرّف على بعض الأسماء الجديدة، وهذه ظاهرة جيدة، ولكن هذا في مجال الرواية، لكن بالنسبة للقصة فغالباً أكثر كتابها غير معروفين. ربما في زمن سابق كانت بعض الأسماء لها حضورها لأسباب عديدة، ربّما من أهمها الحضور الإعلاميّ وارتباط بعض أعمالهم بالسينما. وأنا لا أريد أنْ أتحدَّث عن حقبة التنوير العربيّ، التي وجد بها بالذات في مصر عدد من الأدباء الكبار مثل العقّاد وطه حسين وغيرهما، فذلك يعدُّ من الماضي. وهنا دعوني أطرح بعض الأسباب لازدهار الأدب ثمّ خفوته في زمن سابق، وكذلك ما ينقص الثقافة العربيّة وتحديداً الأدب العربيّ ليكون مؤثِّراً وله حضوره في الداخل والخارج.
أولاً: صناعة النشر، باستثناء بعض دور النشر في لبنان ومصر وإلى حدّ ما السعودية والإمارات، وللأسف عددها محدود جدّاً وتميّزها متفاوت. أقول: إنّ صناعة النشر ويا للأسف في الوطن العربي بدائيّة، فالناشر لا يتجاوز عمله طبع الكتاب وبيعه في معارض الكتب وبعض المكتبات. وأعتقد أنَّ صناعة الكتاب تحتاج إلى جهد من الناشر بتسويق كتابه وترويجه وإيصاله عبر المنصّات المختلفة إلى كلّ مكان، وإقناع القارئ بذلك الإصدار، فلو حدث ذلك لأصبح الكتاب متاحاً في كلّ مكان، ولبلغ يد مَن يحرص على الأدب العربيّ من غير العرب وسعى إلى ترجمته إلى لغته، وهنا سنسلك أول الطريق للوصول إلى الغرب والشرق.
ثانياً: سقف الرقابة. وهذه من المفترض أنّها بالمقدّمة، ولكنّها متفاوتة بين الدول العربية، بالنسبة لي أطالب بسقف مرتفع بشرط عدم المساس بالذات الإلهيّة والقيم، وألّا يكون منشوراً سياسيّاً مؤدلجاً. عموماً بعض الدول تجاوزت هذا الأمر، وكثير من الكتّاب لديه رقيب صارم، فلا يستطيع أن يتجاوز بإبداعه، لذا عند تجاوز أزمة الرقيب سيكون هنالك محفّز للقارئ غير العربي بإبعاد الصورة النمطيّة عن ذهنه عن العرب، ويسعى للنهل من ذلك الإبداع.
ثالثاً: من المفترض أنّه ليس هنالك أيّ عائق أمام وصول الكتاب إلى يد القارئ، بوجود بعض المكتبات الكبيرة، والأهمّ من ذلك المنصّات الإلكترونيّة. والكتاب يصل بنسخته الورقيّة والإلكترونيّة بسهولة، ولكن كيف يصل الكتاب إذا لم يكن هنالك تعريف به وتشويق للقارئ بمحتواه؟ أعتقد أن نشرات لعروض الكتاب، والمنشورات التي تقدّم الكتاب وتسوّقه غير متوفّرة، وإذا وجدت فليس لأغلبها مصداقيّة الآن، ولسيطرة التقنيّة الحديثة، لا يلجأ أحد لنشرة ورقية بها عروض للكتب، التي كانت موجودة بالغرب، لوجود مواقع مهتمّة بالكتاب، وتقدّم رأي القارئ البسيط مباشرة وتقييمه، لأنَّ كثيراً من الآراء قد تكون انطباعاً مباشراً غير مبنيّ على معايير. وأقصد هنا موقع مثل قودريدز(goodreads) ، وعموماً مثل هذه المواقع تساعد على الوصول إلى الكتاب، ولكن تلك المواقع عالميّة ولا يوجد موقع عربيّ – حسب علمي- يقدّم خدمة تسويق الكتاب العربيّ، وتقديم فكرة عنه للقارئ، وبالطبع أنّ أغلب القراءات للكتب المترجمة.
الثقافة العربية تحتاج إلى عمل مؤسّسي لتنظيم النشر والتسويق والتوزيع والترجمة، وقبل ذلك إعطاء كلّ مبدع قيمته، مع أمنيات أنْ يكون للأدب العربيّ حضور في الغرب والشرق، كما للأدب الغربيّ والمشرقيّ أيضاً هذا الحضور والتأثير
رابعاً: مشكلة المركز والأطراف، وما يتبعه من استنقاص واستصغار لكتّاب من الأطراف، والرؤية القاصرة أو المواقف المسبقة تجاه كثير من الكتّاب الذين ينتمون لدول كان البعض يرى أنْ ليس لديها إبداع. ولأكن صريحاً كانت هنالك نظرة قاصرة للسعودية ودول الخليج العربيّة، وكان بعض المحسوبين على الساحة العربيّة يرون أنّ أولئك مترفون وبعيدون عن الإبداع.
الحركة السياسية قبل الثمانينات يا للأسف أثّرت كثيراً في تلك المواقف، وبقي كثير من الدول تحت مسمّى (الرجعية)، على الرغم من أنّها بعيدة عن معنى هذه الكلمة، ولكنّ ثقافة الشعارات أثّرت في كثير من المتعاطين للأدب، فأصبح لا يفكّر بقراءة كتاب صدر في تلك الدول. أرجو أنْ تتغيّر تلك الأفكار، وأن ننظر للأدب العربي ككيان واحد، وإنْ تنوّع مصدره، لكي نصل إلى الآخر، ونكون مؤثّرين.
عموماً الثقافة العربية تحتاج إلى عمل مؤسّسي لتنظيم النشر والتسويق والتوزيع والترجمة، وقبل ذلك إعطاء كلّ مبدع قيمته، مع أمنيات أنْ يكون للأدب العربيّ حضور في الغرب والشرق، كما للأدب الغربيّ والمشرقيّ أيضاً هذا الحضور والتأثير، وأقرب مثال لهذا التأثير قصائد الهايكو اليابانيّة، وكيف تلقّاها العرب، فأصبحنا نقرأ قصائد هايكو بالعربي. بالطبع الأمر يحتاج إلى سنوات إذا تحسّنت ظروف العرب، وقدروا أن تكون لهم قيمة واحترام وحضور في العالم.
أما المدرّس الجامعيّ والباحث والمحرّر الصّحفيّ نزار فلوح المولود في سوريا عام 1961، فيقول: حول عالميّة الأدب العربيّ وحدود التأثّر والتأثير، وهل يمكن للإنتاج الأدبي العربي الحاضر أنْ يكون مؤثِّراً يوماً ما في الغرب؟ وهل يمكن للأدب الغربيّ في الزمن الحاضر أنْ يترك أثراً في الثقافة العربيّة؟
يبدو السؤال وكأنّه يحمل في ثنايا إجابته قدراً من البداهة، فمن الواضح والمسلّم به أنّ الآداب القوميّة للأمم والشعوب تتبادل الأصوات والأصداء، فيؤثّر بعضها في بعض. والأدب العربيّ قديماً وحديثاً لا يخرج عن هذه الحقيقة، ولكنْ- من أجل تلمُّس إجابة أكثر وضوحاً- لا بدّ من تحديد بعض المفاهيم والتصوّرات حول الموضوع. فتجاوُز أدبٍ ما حدود بيئته الجغرافيّة واللغويّة المحليّة ووصوله إلى مجتمع آخر قد يكون أحد مظاهر عبور هذا الأدب إلى العالميّة، ولكنّه ليس بالمعيار أو المظهر الكافي. فهذه العالمية تنطوي- في رأي نقّاد الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة- على معايير ومحدّدات أخرى، منها: ترجمة هذا الأدب إلى لغات عالميّة بارزة، واستحواذه على اهتمام نقديّ وبحثيّ من قبل نقّاد ومستشرقين عبر الحدود، وحصوله على جوائز عالميّة مرموقة، فضلاً عن انتشاره في أوساط القرّاء الغربيين، وتسليط الأضواء عليه في الصحافة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الثقافيّة الغربيّة. قد تبدو هذه كلّها مؤشّرات على أنَّ هذا الأدب تخطّى حدود بيئته الثقافيّة والاجتماعيّة، وبدأ يُحدِث تأثيراً ما في مجتمعات الغرب، إلّا أنّ مفهوم عالميّة الأدب لا يقف عند هذا التوصيف الإجرائيّ. فهناك مقوّمات أهمّ تمسّ جوهر الإبداع الأدبيّ أكثر. فلِكي يحقّق الأدب عالميّةً وانتشاراً خارج حدوده القوميّة، يجب أنْ يمتلك مقوّمات فكريّة وفنيّة وجماليّة خاصّة، أهمُّها:
فإن وُجِدَ عمل أدبيّ عظيم لم ينَل حظّه من الانتشار العالميّ، فإنَّ هذا قد يعود غالباً إلى أسباب تتعلّق بضعف آليّات الانتشار والتوصيل
– تمتُّعه بخصوصيّة محليّة فائقة، وأصالة ذاتيّة ووطنيّة وجماليّة تمنح هذا الأدب هويّته الخاصّة التي تميّزه بنبضه وروحه ولونه وإيقاعه عن آداب الآخرين. لذلك تبدو محاكاة بعض الأدباء العرب للرموز والنماذج الجماليّة لبعض الشعراء أو الروائيّين الغربيّين سعياً إلى العالميّة محاولة غير موفّقة، لأنّها لا تمنح أدبهم سمة الوصول إلى العالميّة، بل تجعله نسخة مزيّفة وغير أصيلة من الإبداع الغربيّ، فضلاً عمّا قد تمثّله من حالة تبعية وانبهار سلبيّ بنموذج جماليّ من خارج ثقافة المبدع القوميّة.
– الروح الإنسانيّة التي تلامس ما هو كونيّ وعالميّ من الهموم والآلام والتطلّعات، بحيث يمثل هذا الأدب القضايا الإنسانيّة المشتركة تمثيلا حارّاً ومعبِّراً.
– التميّز الفنّيّ والإبداعيّ الذي يتجلّى في إنجاز جمال استثنائيّ فذّ ومتفرّد، فترجمة عمل أدبيّ إلى لغة عالميّة لا تضعه في هذه الدائرة ما لم يحمل هذا العمل فرادته الإبداعيّة الخاصّة.
تأتي بعد ذلك الجوانب العمليّة اللاحقة، التي لا ننكر أهمّيتها، من إجراءات ترويج وقنوات توصيل تُعزِّز حالة الحوار الثقافيّ والحضاريّ بين الشعوب، وتمنح الأعمال الأدبيّة فرصة إيجابيّة للانتشار العالميّ، فيجري الحديث هنا عن الترجمات والمؤتمرات والملتقيات الأدبيّة الثقافيّة العالميّة والجوائز الأدبيّة واحتفالات التكريم وجهود الهيئات والبعثات الثقافية ودور النّشر وغير ذلك من مظاهر النشاط والاتصال والتّواصل الثقافيّ النافع لمنتجي الأدب ومستقبليه على الضّفّتين. فإن وُجِدَ عمل أدبيّ عظيم لم ينَل حظّه من الانتشار العالميّ، فإنَّ هذا قد يعود غالباً إلى أسباب تتعلّق بضعف آليّات الانتشار والتوصيل. لكنَّ الجوهرة الدفينة تحت التراب تبقى جوهرة ثمينة وإن لم ينتبه إليها أحد إلّا بمحض مصادفة غير متوقّعة. وإذا حقّق أدب قوميّ ما هذه المقوّمات التي أشرنا إليها، جاز لنا القول: إنّ هذا الأدب يخطو نحو دائرة العالميّة، ويؤثّر في المجتمعات الثقافيّة الغربيّة وغير الغربيّة. بيد أنّنا لا نملك دراساتٍ ومحدّداتٍ دقيقة حول مدى هذا الانتشار وفعاليّة ذلك التأثير. فمن الطبيعي أنْ تلامس روح الشرق أوتار القيثار الغربيّ في غير موضع ونغم، ولكن لا يجوز لنا في ظلّ الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة السائدة في المجتمعات العربيّة من حروب وصراعات وعنف وتدهور قيميّ وثقافيّ واقتصاديّ أنْ نبالغ أو نتوقّع الكثير حول تقدير حجم هذا التأثير ودوره. فقد يبقى على الرغم من وجوده تأثير متواضع ومحدود بالنظر إلى الأوضاع المشار إليها، وما تعنيه من فشل في السياسات الثقافيّة العربيّة الرسميّة.
لعلّ فرص الأدب العربيّ في العالميّة والتأثير تبقى كبيرة إذا ما تحقّقت المقوّمات والشروط السابقة، فلهذا الأدب عمقه التاريخيّ وذاكرته الأدبيّة وهويته الإبداعيّة الموغلة في الزمن واغتناؤه بمنابع من القضايا والآلام والهموم التي تلاقي وتعانق آلام الشعوب الأخرى وعذاباتها وهمومها، ما يتيح إمكانيّة وضع هذه الآلام والهموم في دائرة إبداع إنسانيّ مشترك يتّصف بالعالميّة.
لعلّ فرص الأدب العربيّ في العالميّة والتأثير تبقى كبيرة إذا ما تحقّقت المقوّمات والشروط السابقة، فلهذا الأدب عمقه التاريخيّ وذاكرته الأدبيّة وهويته الإبداعيّة الموغلة في الزمن
أمّا الشقّ الثاني من السؤال فيبدو أنّ الإجابة هنا أوضح، وهي إجابة قطعية بوجود تأثير قويّ للثقافة الغربيّة والأدب الغربي في الثقافة العربيّة سابقاً وراهناً، وهو تأثير ما يزال- ويا للأسف- محكوماً بعلاقة مختلّة بين الثقافة العربيّة وثقافة الآخر الغربيّ. فهي علاقة تسودها مظاهر متعدّدة من ثنائيّات: التقدّم والتخلّف، والغالب والمغلوب، والتابع والمتبوع.. وقد عملت الدراسات الأدبية المقارنة على إظهار التمثّلات الفكريّة والثقافيّة والجماليّة لهذا التأثير في أعمال شعراء الحداثة والروائيّين والمسرحيّين العرب، فضلاً عن التأثير الجارف للنظريّات النقديّة الغربيّة في النقد العربيّ الحديث والمعاصر، وهو ما يتطلّب وقفة نقديّة مستقلّة تحتاج إلى قدر غير قليل من التوسّع والتفصيل.
أمّا القاصّ والروائي والباحث المصري فكري داوود المولود في مصر عام 1956 فيجيب: هل يمكن لأدبنا أنْ يؤثّر في الغرب؟ نعم، يمكن لأدبنا المعاصر أنْ يؤثّر في الغرب، لكن بشروط وفاعليّات جادّة، منها:
– أنْ تقوم حركة منتظمة للترجمة، عن طريق لجان محايدة واعية لانتخاب أعمال جيّدة ومتنوّعة لأجيال مختلفة.
– تجمع تلك اللجان بين الأكاديميّين المثقّفين والأدباء لتصنيف الكُتّاب، سواء من حيث الاتجاهات الفكريّة، أو من حيث القدرة على توظيف اللغة، ليعبّروا عن رؤاهم، أو من حيث طرق الكتابة وتقنيّاتها.
– تختصّ كلّ لجنة بجنس ما، فتكون هناك لجان للشعر، وأخرى للنثر، روايةً وقصةً، ومسرحاً شعريّاً أو نثريّاً. فالمترجم يكمل ما قام به الكاتب، وهو إنتاج النصّ الذي لا يدري ما يفعل حتى تختار أعماله وتترجم، بعد أنْ مرّ على عشرات من لجان القراءة والإجازة قبل نشرها في أهمّ المؤسّسات الرسمية كهيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة ودار الهلال ومؤسّسة أخبار اليوم ودور نشر أخرى خاصّة، كما كُتبت عن أعماله عشرات الدراسات، ونوقشت على مستوى واسع بالمؤتمرات والندوات وبالإذاعة والتلفزيون؟
– الحدّ من سطوة بعض دور النشر الشهيرة التي تتبنّى كتّاباً نصف موهوبين، تنشر لهم أيّ منتج وتسوقّه ثمّ تترجمه، بل تستخدم قدرة أصحابها المادّية والسلطوية لتجعل منافذ الترجمة الرسميّة تترجم هذه الأعمال المتواضعة.
– الحرص على أن يكون المترجمون دارسين وموهوبين، فالمترجم الموهوب ينتج نصّاً إبداعيّاً وليس نصّاً مترجماً حرفياً، كما أنّه أكثر دراية وقدرة على فهم النصوص وروحها، بحيث يستطيع القارئ الغربيّ فهم النصّ فهماً صحيحاً. فالترجمة الحرفيّة قد تعطي معاني مختلفة تماماً تصل إلى حدِّ النقيض.
– يجب عدم صبّ اهتمامنا كعرب على الترجمة من اللغات الأجنبيّة إلى العربيّة فقط، حتى في وجود مجلس أعلى للترجمة في بعض البلاد مثل مصر مثلاً.
– عدم الاقتصار على ترجمة أعمال مجموعة معيّنة هم غالباً موظّفون بالهيئات الثقافيّة الرسميّة، بصرف النظر عن مستواهم الفكريّ والإبداعيّ، وهو عمل يشابه ما تفعله بعض دور النشر الخاصّة –يمكن ذكر بعضها لو تطلّب الأمر- مع عدد محدود. لا أدري إن كان هذا مقصوداً أم عشوائيّاً، فإن كان مقصوداً فالكارثة أكبر، لأنّه يعني أنّنا بصدد عمل منظّم له أهداف، من شأنه اطلاع الغرب على أعمال هابطة، تعطي انطباعات سلبيّة عن الأدب العربي.
والغرب هنا معذور، فهو لا يملك سوى الحكم على الأدب العربيّ من خلال تلك النماذج التي تصل إليه. هذا على الرغم من جودة بعض هؤلاء الكتاب المتَبَنّين من قبل دور النشر. لكنّ الساحة مليئة بكتّاب ناضجين وكبار، لا تلتفت دور النشر لهم ويا للأسف، بحجّة أنّهم متحقّقون، وليسوا في حاجة إلى اكتشاف أو تشجيع. يجب عدم إهدار الفرص السابقة البسيطة في الترجمة، مثلما حدث في مؤتمر من مؤتمرات أدباء مصر العامّة، فقد رأت أمانة المؤتمر أنْ تضيف إلى كتب المؤتمر كتباً تحوي نصوصاً مترجمة لبعض المبدعين في كتب ثلاثة، أحدها للقصة، والثاني لشعر الفصحى، والأخير للعاميّة. واستمرّ هذا لدورتين، وأصبح لدينا بعدها ستّة كتب تضمّ عشرات النصوص المهمّة. كان هذا حدثاً أثلج صدورنا، وتهافتنا على اقتناء الكتب، وكان من المفترض عمل خطّة لتوزيعها على مراكزنا الثقافيّة وسفاراتنا بالخارج، ولكن الأمر توقّف، والكتب دخلت المخازن ولم تخرج، وكأنّنا نؤذّن في آذان بعضنا، فلا الغرب رأى، ولا الأمريكان سمعوا.
– ولا ننسى العامل الاقتصاديّ، فالترجمة تحتاج إلى المادّة، والتسويق في الغرب أصعب بكثير لدى من فشلوا في التسويق الداخليّ، فمخازن الهيئات الثقافيّة مليئة بالكتب المنشورة على نفقة الدولة، المتروكة لعبث الفئران.
– كما أرى حتمية دعم أيّ جهود من الحكومات العربيّة بمشاركة بعض الهيئات العالميّة كاليونسكو مثلاً.
– إقامة مؤتمرات أو ندوات تضمّ أهمّ الكتّاب العرب المقيمين في أوروبا وأمريكا الذين يكتبون بلغتهم، المتمسّكين بهويّتهم العربيّة، والاستعانة بهم في لجان انتخاب ما يمكن ترجمته، لأنّهم سيكونون أكثر تأثيراً من غيرهم في الغربيّين.
– وأخيراً أرى أن الأمر في حاجة إلى عمل جماعيّ مسؤول، أو إستراتيجيّة محدّدة، يتمّ تنفيذها عبر خُطط عمليّة وسهلة، بعيداً عن البيروقراطيّة والروتين القاتل وسوء الإدارة وفساد القائمين عليها.
أمّا الروائي العراقي نزار عبد الستّار المولود في بغداد عام 1967، فيقول: الإنتاج الأدبيّ العربيّ الذي ظهر قبل نصف قرن كان يمكن له أنْ يكون مؤثّراً في الغرب. أمّا الآن فالفرصة أصبحت بلا معنى، إلّا إذا أراد الغرب الاهتمام بالكلاسيكيّة العربية كنوع من الترف. نحن لم نتوقّف يوماً عن التأثّر بالأدب الغربيّ، وهذا بدأ مع بواكير القرن العشرين، ومرحلة تأصيل الأدب العربيّ لم تتشكّل إلّا في ستينيات القرن الماضي. واستمرّ تأثير الأدب الغربيّ علينا إلى اليوم مع التوجّه إلى الترجمة وغزارة الإنتاج الأدبيّ الغربيّ ودخول قارّات جديدة إلى منطقة المعرفة الإبداعيّة.
ثمة عوائق عدّة تجعل الأدب العربيّ غير مؤثّر في الغرب، ومن أهمّها رسالة الغرب نفسها التي لا تثق بوجهة نظر الكاتب العربيّ، وتجدها قاصرة. وللغرب حقّ في هذا، فالأدب العربيّ في كلّ الأزمنة محكوم بالأطر السياسيّة والأيديولوجيّة والدينيّة، ومن ثم فلا علاقة فكريّة حقيقيّة بين العرب والغرب. كما أنّ الغرب يريد شرقاً يمتلك السحر الكلاسيكيّ، وليس أدباً عولميّاً، ومن ثم تخفق كلّ محاولات التقرّب الأدبيّ العربيّ إلى الغرب. وثمة فروق هائلة بالوعي الحياتيّ بين طرفي الأرض، ونحن ككتّاب عرب ندرك هذا الشيء. لكن ويا للأسف لا أحد يهتمّ بالمحاولة، لأنّ الإنسان العربي مكبّل بالضحالة الفكريّة، وبمشكلات رواسبه الدينيّة وقمعه الذكوريّ للمرأة، ولا توجد موهبة حقيقية تكون عابرة للقارات. القارئ الغربيّ لا يستطيع فهم العربيّ إلّا من الناحية الخياليّة، وذلك لصعوبة تفكيك الحبال التي تشدّ العربيّ إلى وتد مشكلاته الحياتيّة الواقعيّة التي هي عند القارئ الغربيّ بلا معنى، ولا شأن له بها. نحن نعرف أنّ الأدب هو طاقة إنسانيّة موحّدة، ويمكن لنا جميعاً فهم النوازع البشرية، لكنّ الأدب يتطلّب عقليّة جبّارة تفكّك الظواهر، وتزيل القشور وصولاً إلى العمق.
ثمة عوائق عدّة تجعل الأدب العربيّ غير مؤثّر في الغرب، ومن أهمّها رسالة الغرب نفسها التي لا تثق بوجهة نظر الكاتب العربيّ، وتجدها قاصرة
في الحقيقة إنّ خلق التفاعل مع الطرف الآخر من الكوكب يحتاج إلى زرع عقليّة غربيّة في عمق الشرق، وهذا يتطلّب من العربيّ النظر إلى حياته بعقليّة غربيّة، وبذلك يمكن له أنْ ينتج أدباً راقياً يتقبّله الغربيّ ويؤثّر فيه. ولكنّني أعتقد أنّ الغرب كسول، ولديه قناعات ثابتة عن الأدب العربيّ. ودور النشر الغربيّة لا تبحث جيداً في البلدان العربية، لأنّها غير واثقة تماماً من وجود عربيّ يمكن له جذب قرّاء الغرب. مع كلّ هذا الفشل أرى أنّ على دور النشر الغربيّة أنْ تتخلّى عن قناعاتها القديمة وتأتي إلى هنا لتبحث”.
وقد أجاب الروائي السوداني أمير تاج السرّ المولود في السودان عام 1960 بقوله: “هل الإنتاج الأدبي العربي الحاضر يمكن أنْ يكون مؤثّراً يوماً ما في الغرب، وهل يمكن للغرب الأدبيّ في الزمن الحاضر أنْ يترك أثراً في الثقافة العربية؟ لقد تحدّثت كثيراً عن موضوع الأدب العربيّ وارتباطه بالغرب، ولعلَّ جزءاً كبيراً من أحلامنا أنْ يكون لهذا الأدب موطئ قدم في الغرب، ناهيك عن التأثير الكبير هناك. فالأدب العربي الآن في مرحلة لا أعرف ما أسمّيها، يوجد طوفان كتابيّ رهيب مع قليل من الإنتاج الجيّد، وهذا شيء يصعب معرفته، أو يصعب تقصّيه. فلا أحد يستطيع متابعة كلّ ما يصدر، بعكس أيّام بداياتنا حين كان النقّاد ومحرّرو الثقافة في الصحف يلتقطون الأصوات الجيّدة ويحاولون دعمها لتستمرّ. توجد ترجمات للغات أخرى، هذا أكيد. وقد ازدادت حركة الترجمة في السنوات الأخيرة، وانتقلت أعمال روائيّة وقصصيّة للغة الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة وغيرها من اللغات، لكن برغم ذلك لا نقول إنّ الأدب العربي انتشر أو أحدث تأثيراً، فالقرّاء في الغرب لم يتعرّفوا على الأدب العربيّ بصورة جادّة، ومن ثم يظلّ مجهولاً لديهم، وحين تمرّ على أيّة مكتبة في روما أو لندن أو مدريد لن تجد رواية عربيّة موضوعة في رفّ الأكثر مبيعاً، بينما تجد رواية مترجمة من أيّة لغة إلى العربيّة موضوعة في ذلك الرفّ. أكثر من ذلك، هناك ناشرون للأدب العربيّ لا يطرحون نسخاً مباشرة، وإنّما يطبعون حسب الطلب، أيْ بناءً على رغبة زبون ما يسأل عن كتاب، فترسل المكتبة للناشر أو الموزّع لإحضاره. شخصيّاً في أثناء أسفاري، كنت أبحث عن كتبي المترجمة وكتب أصدقائي أو زملائي وأعثر على بعضها في رفوف حزينة في المكتبات.
هذا لا يعني أنّه لا يوجد قارئ غربيّ للأدب العربي، وأنا أقصد القارئ المتلهّف، القارئ الذي يمكن أنْ يقف ساعات في الصفّ ليصل إلى الكتاب العربيّ، كما يفعل مع الكتاب الصينيّ أو اليابانيّ، أو كتاب من أدب أمريكا اللاتينية، تلك الآداب التي تمّ الترويج لها بعمق، ونالت حظّاً، بينما مجهوداتنا حتى الآن فرديّة بحتة. فالقارئ للأدب العربي في النهاية قارئ باحث، أو طالب جامعيّ، وقليل من القراء العشوائيّين. لذلك نحن الآن لا نطمح في تأثير الأدب العربيّ على الذهنية الغربيّة، نريد أنْ يصل الأدب فقط، ويكون له قرّاء ثابتون، أو قرّاء ينتظرون الجديد، وهذا عمل لا يقوم على عاتق الأفراد بل المؤسّسات التي يجب أنْ تتولّى الأمر، وهناك مؤسّسات عديدة في الوطن العربي تتحدّث عن الثقافة والأدب، ولا نرى مجهوداً يبذل في موضوع الترويج الخارجيّ الذي يستحقّه الأدب العربيّ بما فيه من ثراء وحيل معرفيّة لا يعرفها الغرب بالتأكيد. مسألة تأثير الأدب الغربيّ علينا، هذا شيء مفروغ منه، نحن في غالبنا قرأنا، ونقرأ للكتّاب الغربيّين في أيّ زمن، وحركة الترجمة نشطة من اللغات الغربيّة إلى اللغة العربيّة بشدّة، وأيّ كتاب يحصل على جائزة يترجم بسرعة. هكذا، وقد لاحظت في السنوات الأخيرة أنّ قرّاء كثيرين يعرضون ما اقتنوه من كتب من المعارض التي عقدت في بلدانهم، وكان معظم ما اقتنوه أدباً مترجماً إلى العربية، ممّا يزيد الأمر تعقيداً على الكتابة العربيّة عموماً.
لذلك نحن الآن لا نطمح في تأثير الأدب العربيّ على الذهنية الغربيّة، نريد أنْ يصل الأدب فقط، ويكون له قرّاء ثابتون، أو قرّاء ينتظرون الجديد، وهذا عمل لا يقوم على عاتق الأفراد بل المؤسّسات التي يجب أنْ تتولّى الأمر
أما الكاتبة والناقدة سلوى السعداوي، المولودة في تونس عام 1966: اتفقت أغلب الدراسات النقديّة العربيّة والغربيّة، وخاصة دراسات بعض المستشرقين والمهتمّين بالأدب المقارن، على تأثير آدابنا العربيّة بمختلف أجناسها الشعريّة والسرديّة في الآداب الغربية. كما تأثّر أدبنا العربيّ، وخاصّة في جنس الرواية بالروايات العالميّة، فقيل إنّ محمد حسين هيكل قد تأثّر بعالم غادة الكاميليا لألكسندر ديماس، وظهر ذلك في روايته (زينب) التي عدّها أغلب النقاد أوّل رواية عربيّة رومانسيّة تأثّر صاحبها بقصص الحبّ الغربيّة وبمظاهر الحياة الاجتماعيّة. ووجدنا أشكال التناصّ والمحاكاة الظاهرة والضمنيّة للمنجز السرديّ الغربيّ في الكتابات الروائيّة والأقصوصيّة العربيّة بفضل قراءات الروائيّين والقصّاصين العرب للروايات المترجمة إلى العربيّة، أو في أصولها الغربيّة، فنذكر على سبيل المثال لا الحصر روايات فلوبار وكافكا (تأثّر بها الروائيّ المصريّ صنع الله إبراهيم، والروائي التونسيّ عبد الجبار العشّ) وأرنست همنغواي وقصص تشيخوف وغوغول وغي دي موباسان، بل نجد تأثير الرواية الجديدة في فرنسا (وروادها ميشال بيطور، ونتالي ساروت، وألان روب غرييه) في كتابات روائيّي الحساسيّة الجديدة بمصر إدوار الخرّاط ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني. ويتجلّى ذلك في التمرّد على الكتابة السرديّة التقليديّة والتنظير لرواية جديدة تكسر خطية الزمن وتتلاعب بالضمائر وتوظّف تيّار الوعي لبناء عوالم الشخصيّة النفسيّة. ولا ننسى كيف عمّق نجيب محفوظ قراءاته للروايات العالميّة الشهيرة لدوستوفسكي وبلزاك وديكنز، على الرغم من اشتغاله بالمحلّية المصريّة، ونوّع كتاباته في الاتّجاه الواقعيّ والفلسفة الوجوديّة. وتجلّى التأثّر الفلسفيّ الوجوديّ في روايات الشحّاذ والطريق واللصّ والكلاب على وجه الخصوص. وما يهمّنا هنا، ونظراً لضيق المساحة الحواريّة المخصّصة لموضوع التأثّر والتأثير الأدبيّين غرباً وشرقاً، هو معرفة مدى حضور السرد العربيّ في الأعمال الأدبيّة الغربيّة استلهاماً للعوالم القصصيّة، أو تضميناً وتفاعلاً تناصياً. ولا شكّ في أنّنا نعرف جميعاً مدى تأثير الحكاية المثليّة، كتاب كليلة ودمنة، الذي اخترق العالميّة والكونيّة (على الرغم من أصوله الهندية أو الفهلويّة، وترجمته إلى العربيّة، وهذا موضوع خلافيّ بين النقاد) تأثيره في قصص المغامرات الغربيّة، أو في الخرافة الأليغوريّة (الأمثولة الرمزيّة على ألسنة الحيوان لجان دي لافونتين). ونعلم أيضاً مدى استلهام الأدب الغربيّ الموروث القصصيّ الشعبيّ وعوالم ألف ليلة وليلة العجيبة، وكانت هذه المدونة السرديّة ملهمة للروائيّين والسرديّين الإنشائيّين أمثال تزفتان تودوروف البلغاريّ الأصل، الفرنسي التكوين السرديّ، إذ اشتغل في كتابة شعريّة النثر بهذا المؤلّف القصصيّ. وبحماس كبير يعترف غابريال غارسيا ماركيز بتأثّره بعالم ألف ليلة وليلة، وفتنة السرد فيه، وهو القائل في كتابه عشت لأروي: تعلّمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبداً بأنّه يجب أنْ نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أنْ نعيد قراءتها. كما تأثّر غوته بهذه الحكايات العجيبة الممتعة. لكن هل وجدت الروايات العربيّة المعاصرة اليوم وبعد الحراك الاجتماعيّ العربيّ صدى في الآداب الغربيّة؟ لن نستطيع الجزم بذلك؛ لغياب ببليوغرافيا معاصرة جامعة لكلّ الإصدارات السرديّة المعاصرة شرقاً وغرباً على حدّ علمنا (نذكر أنّ حمدي السكوت وضع ببليوغرافيا الرواية العربيّة من بداية القرن التاسع عشر إلى 1995 في خمسة مجلّدات، وبعد هذا العمل الضخم لا نعرف، وقد نكون مخطئين، مَن واصل هذا الجهد التاريخيّ والتوثيقيّ). فالإجابة عن سؤالنا في عنوان الكلمة صعبة في ظلّ كثرة السرود، وكثرة الأسماء الكاتبة بأقلام الرجال والنساء، أسماء معروفة رسّخت نصوصها في ذاكرة القراء كتبت الرواية الحديثة ثمّ انخرطت في أسئلة التجريب الروائيّ وما بعد الحداثة الروائيّة (محمد الباردي من تونس، وأحمد المديني من المغرب..)، وأسماء أخرى ناشئة من طبقات اجتماعيّة وثقافيّة وتعليميّة مختلفة، ومن مختلف الأعمار، فشهدنا ما يمكن أنْ نصفه بتسونامي السرد أو بديموقراطية الكتابة، لأنّنا لا يمكن في هذا الحيّز الضيق أنْ نجزم بانتماء هذه النصوص إلى جنس الرواية، أو إلى القصة القصيرة. لذلك يعسر علينا متابعة كلّ الإصدارات السرديّة المعاصرة، وقراءة كلّ الروايات الغربيّة للبحث عن مظاهر التأثّر بهذه السرود. لكن ما لاحظناه هو ترجمة الأعمال التي فاز أصحابها بالجوائز العربية المادّية (البوكر وكتارا ..) إلى لغات مختلفة فرنسيّة وإنجليزيّة وإيطاليّة وروسيّة وألمانيّة. ولسنا متأكّدين من إقبال النقّاد الغربيّين اليوم والقرّاء العاديّين على هذه النصوص التي ألّفها كتّاب عرب، بل لسنا أيضاً متأكّدين من قراءة الروائيّين الغربيّين السرود العربيّة المعاصرة، فيتأثّرون بعوالمها تأثّر الروائيّين القدامى (غارسيا ماركيز وغوته..) بموروثنا القصصيّ القديم، إلّا بعد الانكباب فعليّاً في البحث عن هذه المؤثّرات. ولن يتسنّى لنا ذلك إلّا بالعمل النقديّ الجماعيّ. لقد كان أمر البحث في تجليّات التأثير والتأثّر ممكناً قبل هذا التراكم الكمّي الهائل من النصوص، وممكناً لتوفّر شروط الناقد المختصّ الموسوعيّ المعرفة، متعدّد القراءات وخاصّة في الأدب المقارن وتحليل الخطاب وحواريّة النصوص. فلا يكفي أنْ تصدر تعليقات سريعة في بعض المواقع الإلكترونيّة من نقّاد مختصّين وقرّاء عاديين، أو نستمع إلى شهادات الروائيّين أنفسهم الفائزين بالجوائز عن مدى تأثّر الروائيّين الغربيّين بما كتبوا. ومهما يكن أمر شهرة هذه النصوص السرديّة بفضل الإشهار الإعلاميّ، أو المقالات الصحفيّة والإلكترونيّة، أو شهرتها عن طريق الترجمات والحوارات الشفويّة، فإنّ ما قيل عنها لا يمثّل في رأينا دراسات نقديّة رصينة عميقة تبحث في أشكال تأثّر الرّوائيين والقصّاصين بعضهم ببعض غرباً وشرقاً، غير أنّنا لا ننفي رغم ذلك ظاهرة التثاقف والتفاعل العربيّ- الغربيّ، والغربيّ- العربيّ إبداعيّاً لمَن يقرأ ويتأثّر، بصرف النظر عن لغة النصّ الأصليّة أو المترجمة، لأنّ التثاقف والتفاعل التناصيّ لا يخلو منهما عصر من العصور، أو مصر من الأمصار على امتداد التجارب البشريّة الكونيّة.
ضحى عبد الرؤوف المل
كاتبة وروائية لبنانية، عضو اتحاد الكتاب العرب في لبنان، لها العديد من الكتب والمقالات المنشورة، إلى جانب ممارستها العمل التعليمي لسنوات طويلة، وتولي أهمية خاصة للنقد الفني والأدبي.