تنتمي نبويّة موسى (1886-1951) إلى الجيل الأوّل للناشطات في مجال حقوق المرأة في مصر، فقد كانت أوّل مدرّسة للغة العربيّة، اعترفت بها الدوائر الحكوميّة، ورائدة في مجال تعليم المرأة. طُبعت حياتها ونشاطاتها بالصراع: فقد كافحت بوصفها امرأة مصريّة من أجل استقلال بلادها من الاستعمار البريطانيّ، وكافحت من أجل أن يكون لها صوت في المجتمع1.
ولدت نبويّة موسى عام 1886 في الزقازيق، وهي بلدة صغيرة شرق دلتا النيل. ولمّا بلغت عامها الخامس والثلاثين استعادت مصر استقلالها بالاسم فقط2. بالنسبة إلى مصر كان هذا الأمر نقطة تحوّل، إذ أعقب ذلك سنوات من الاضطرابات السياسيّة وانعدام للأمن العامّ، تواجهت فيها الجمهوريّة الفتيّة مع قضايا تتعلّق بالهُوِيّة الوطنيّة ومسألة الحداثة. وكانت ذراع الاستعمار تتطاول وتتدخّل في السياسة الداخليّة للبلاد حتّى في العقود التي تلت إعلان الاستقلال، الأمر الذي أدّى إلى تنامي الميول المعادية للاستعمار في الوقت نفسه على الصعيدين السياسيّ والاجتماعيّ. وقد طبع شعور القوميّة والوطنيّة الخطاب الاجتماعيّ وروح العصر3. وكذلك كانت قضيّة المرأة تناقَش تحت مظلّة النموذج الوطنيّ، فبدأت النساء من الطبقات المدنيّة العليا والوسطى بتنظيم أنفسهنّ والتوجّه إلى الحياة العامّة والمهنيّة4. تقف نبويّة موسى في طليعة المناضلين من أجل حقوق المرأة في التعليم والعمل. وستدخل التاريخ المصريّ بصفتها أوّل امرأة تحمل شهادة الثانويّة العامّة؛ غير أنّ نجاحها يتجاوز ذلك بكثير. فمن خلال الإنجازات التي حقّقتها في حياتها، أسهمت نبويّة موسى إسهاماً فعّالاً في تأسيس النظام المدرسيّ المصريّ الحديث.
بدأت نبويّة حياتها العمليّة معلّمة، ثم أضحت مديرة مدرسة، وأسّست بعدها مدرستين للبنات ومجلتها الخاصّة (الفتاة، 1936-1942). وعُيّنت عام 1924 في وزارة التربية لإدارة نظام المدارس الثانويّة للبنات، لكنّها أُعفيت من منصبها بعد عامين بسبب موقفها الانتقادي للحكومة. وفي عام 1942 انتهت مسيرتها المهنيّة فجأة، عندما قُبض عليها في مظاهرة مناهضة للسياسة الخارجيّة للعائلة المالكة، فأُغلقت مدارسها ومجلّتها وأُحيلت إلى التقاعد القسري وهي في السادسة والخمسين من عمرها. تركت نبويّة موسى مجموعة كبيرة من المقالات، وكتاباً مدرسيّاً في تعليم الفتيات، ورواية، إضافة إلى سيرتها الذاتية ومجلة أنشأتها بنفسها5.
ترى نبويّة موسى أن التعليم وتمكين المرأة من العمل شرط أساسيّ لازدهار الأمّة الفتيّة، فمن أجل الثبات والبقاء في العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً يجب على الأمّة أيضاً تعبئة نصفها الآخر من السكّان الإناث6. لقد ناضلت موسى من أجل تأسيس مدارس حكوميّة جيّدة للفتيات لتحلّ محلّ المدارس الأجنبيّة التي كانت في ذلك الوقت لا تزال تمثّل الأكثريّة، وتعلّم أولاد الطبقة العليا والمتوسّطة في المدن. فالتعليم وفقاً لموسى يجب أن تكون قيادته في أيد وطنيّة لتعزيز حبّ الوطن، والحدّ من تأثير الأوروبيّين7، إذ إنّ تعليم اللغة العربيّة الفصحى أمر مهمّ للغاية؛ لكون العديد من المصريّين من الطبقات العليا يتقنون اللُغات الأجنبيّة أكثر من اللُّغة العربيّة بسبب حصولهم على تعليم أجنبيّ، كما هو حال الناشطة الشهيرة في مجال حقوق المرأة هدى شعراوي. ونبويّة موسى نفسها أظهرت ملكة لغويّة عربيّة ممتازة، فهي أوّل امرأة مصريّة يُسمح لها بتدريس اللّغة العربيّة في المدارس الحكوميّة، وهذا الامتياز ظل طويلاً محصوراً بالعلماء المسلمين8.
ترى نبويّة موسى أن التعليم وتمكين المرأة من العمل شرط أساسيّ لازدهار الأمّة الفتيّة، فمن أجل الثبات والبقاء في العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً يجب على الأمّة أيضاً تعبئة نصفها الآخر من السكّان الإناث
إضافة إلى كونها اصطدمت أكثر من مرّة مع العلماء المحافظين، كما تصف بالتفصيل في سيرتها الذاتيّة. وقد قامت في سنّ مبكّرة بتفسير القرآن بشكل مستقلّ متحرّرة من التفسيرات الذكوريّة التي تريد أن تقصر دور المرأة على تدبير شؤون المنزل9. وتتمثّل الأولويّة القصوى بالنسبة لنبويّة موسى في تعليم الفتيات في المدن من الطبقة العليا والمتوسّطة اللاتي من المفترض أن يقدن البلاد مستقبلاً. فبينما تسعى النساء في الاتحاد النّسويّ المصريّ بقيادة هدى شعراوي، إضافة إلى مصلحين آخرين أمثال محمّد عبده، إلى بناء مدارس في المناطق الأكثر فقراً، ترى موسى أنّه من الواجب التركيز أولاً على مدارس ثانويّة غير مجانيّة لأغنياء المدن. في هذا المجال كتبت في مقالة لها10: “لهذا كان من العبث أن نترك التعليم العالي ونهتمّ بالتعليم الأولي فقط، ولقد تغالينا في ذلك حتّى أصبح الناس ينادون بتعليم أولاد الباعة والخدم ومسّاحي الأحذية، مع أنّ أبناء هؤلاء المصلحين الذين ينادون بتعليم السوقة لم يُوفَّقوا إلى نَيل ما يليق بهم من التعليم […]. فمن خلال التّعليم الصحيح، وفقاً لموسى، يجب تربية فتيات الطبقات العليا ليصبحن نساءً وطنيّات وفاضلات يؤدّين واجبهنّ من أجل خير المجتمع11.
وتدين موسى كلّ انشغال بالأمور السطحيّة مثل الموضة أو المكياج وتتبع مبادئ أخلاقيّة صارمة12، ففي الأماكن العامّة كانت تظهر دائماً مرتدية “العباية”، وهو الرداء الأسود التقليديّ الذي ترتديه النساء المصريّات. وتحت هذا الرداء كانت ترتدي غالباً بدلة رجاليّة أوروبيّة (انظر الصورة)، وهذا أمر لم يمرّ مرور الكرام. فقد تمّ نشر صور كاريكاتوريّة لها في الصحف تصوّرها امرأةً مسترجلةً قبيحة الشكل، وكان سلوكها المخنّث موضوعاً للسخريّة والثرثرات. ومن باب السُّخريّة الذّاتيّة وروح الدعابة قامت نبويّة موسى بنشر هذه الرسوم الكاريكاتوريّة في مجلّتها الشخصيّة.
وتعتقد رانيا عبد الرحمن أنّ موسى قد تعمّدت الظهور بهذا المظهر أمام الملأ حماية لنفسها من التَّهجّم على عفّتها. فمظهرها لا يتناقض فقط مع التصوّرات الذكوريّة المحليّة للأنوثة، بل يتباين مع الصور “المشرقنة”13 للمرأة في أوروبا14. في وصفها للمؤتمر الدُّوليّ للمرأة الّذي عُقد عام 1923 في روما وحضرته مع هدى شعراوي وسيزا النبراوي، يتّضح جليّاً مدى معارضة نبويّة موسى ومقاومتها لجهود تحرّر المرأة الأوروبيّة ذات النهج الأبويّ، فتصف في هذا المجال وفد النساء الأوروبيّات بقيادة امرأة بريطانيّة ترتدي ثوب “السّاري” ذي الألوان الزاهية والشفّاف الكاشف للجسم معتبرة ذلك بأنه “معرض للبس الشرق المعيب” ظهرت به النساء البريطانيّات المحتشمات عمداً لإظهار تفوّقهنّ الثَّقافيّ15. قضت نبويّة موسى حياتها من دون زواج ومن دون أطفال، وهو قرار اتخذته بكلّ وعيها، لتكرّس نفسها بالكامل لعملها في مجال التعليم. ففي مذكّراتها يظهر نفور شخصيّ من الزواج الذي وصفته بـ “استعباد للنساء”16. ففي ذلك الوقت لم يكن الزواج يعني لموسى عمليّة الخضوع لرجل فحسب، بل كان سينهي حياتها المهنيّة، لأنّه لم يكن يُسمح وقتها للنساء المتزوّجات بالعمل معلّمات، وهذا ما كانت نبويّة نفسها تؤيّده؛ لأنها كانت تعتقد أنّه لا يمكن التوفيق بين تربية الأطفال والعمل المنزليّ مع الحياة المهنيّة17. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قضايا أخلاقيّة وسياسة أسريّة كانت موسى تمثّل وجهة نظر محافظة. فعلى سبيل المثال كانت تعارض إلغاء تعدّد الزوجات، وتؤيّد مبدأ الفصل بين الجنسين18. وعلى عكس زميلاتها المشهورات القادمات من أسر مسيحيّة أو مسلمة ثريّة جدّاً، فإنّ جذور نبويّة موسى تعود إلى طبقة مسلمة وسطى، وقد نشأت من دون أب. فقد كانت تفتقر إلى دعم أسرتها على الصّعيدين المعنويّ والماديّ، وسارت بشكل عصاميّ وبمفردها في حياتها المدرسيّة والمهنيّة؛ ولهذا السبب وُصفت في الكتب بأنّها شخصيّة قويّة ومكافحة، تمكّنت في إثبات نفسها في قطاع التَّعليم الّذي يُهيمن عليه الرّجال، ومن ثم مهّدت موسى الطّريق للنساء اللّواتي جئن من بعدها.
المصادر:
١-يرتكز هذا المقال على أطروحة الماجستير التي ُقّدمت عام 2022 إلى جامعة بون و ُنشرت حديثاً عن دار إي بي في برلين، سلسلة الدارسات الإسلامّية العلمّية في بون: Quiering, Miriam, Nationalismus, Moral- und Elitedenken in den Schriften der ägyptischen Frauenrechtlerin Nabawiyya Musa
٢-Goldschmidt, Arthur, Bibliographical Dictionary of Modern Egypt (Boulder: Lynne Rienner Publisher, 2000); Talhami, Ghada Hashem, Historical Dictionary of Women in the Middle East and North Africa (Lanham, Md.: Scarecrow Press, 2013)
٣-Steinbach, Udo, Die Arabische Welt im 20. Jahrhundert: Aufbruch – Umbruch – Perspektiven (Stuttgart: W. Kohlhammer Verlag, 2015), 52–74; Yapp, Malcom, The Near East since the First World War (London: Longman, 1991), 52–58.
٤-Baron, Beth, The Womens Awakening in Egypt: Culture, Society, and the Press (New Haven/London: Yale University Press, 1994); Badran, Margot, Feminists, Islam, and Nation: Gender and the Making of Modern Egypt (Princeton: Princeton University Press, 1995).
٥-Badran, Margot, Feminism in Islam: Secular and Religious Convergences. Oxford: Oneworld Publications, 2009, 91–106; Civantos, Christina, ”Reading and Writing the Turn-of-the-Century Egyptian Woman Intellectual. ” Journal of Middle East Women’s Studies 9, Nr. 2 (2013): 4–31.
٦- موسى، نبوّية، “بحث في تاريخ المرأة واتباع الأمم لها في الرقّي والانحطاط”. البلاغ الأسبوعّي 1، عدد 1 (1926)، ص. 14
٧-موسى، نبوّية، “التعليم الأهلي: وجوه العناية به للطبقتين العالية والمتوّسطة”. البلاغ الأسبوعّي 1، عدد 2 (1927)، ص. 27-30
٨- Civantos, ”Reading and Writing,” 17–18
٩- Badran, Feminism in Islam, 100.
١٠- موسى، التعليم الأهلي
١١- المصدر نفسه
١٢- موسى، نبوّية، “بارءة النساء من طبيعة التبّرج”. البلاغ الأسبوعّي 1، عدد 12 (1927)، ص.13-32
١٣- ادوارد سعيد هو من طبع مفهوم مصطلح “الاستشراق”. فهو يصف الصورة المشوّهة للشرق التي تتميّز بغرائبيّة “الآخر” واختلافه. وقد أدت علاقات القوى الاستعماريّة الدور في تكوين هذه الصورة. ومثال على ذلك التصوّر الجنسيّ للحريم، الذي لا يزال حتى يومنا هذا موجوداً في المخيّلة الغربيّة. انظر: Said, Edward W., Orientalism. London: Penguin Books, 2003.
١٤- عبد الرحمن، رانيا، “سياسة نبويّة موسى الأخلاقيّة”. في: “من رائدة القرن العشرين: شخصيّات وقضايا”، نشر هدى السدّة، 109-122. القاهرة: ملتقى المرأة والذكرى، 2001.
١٥- موسى، نبويّة، “الكمال أم الحجاب”. البلاغ الأسبوعيّ 1، عدد 5 (1926)، ص. 20.
١٦- نبويّة موسى نقلاً عن: Badran, Feminism im Islam, 103.
١٧- موسى، نبويّة، “المتزوّجات والأعمال العامّة”، البلاغ الأسبوعيّ 1، عدد 43 (1927)، ح. 31؛ موسى، نبويّة، “متى تعمل المرأة: رؤيتي في ذلك بوضوح”، البلاغ الأسبوعيّ 2، عدد 62 (1928)، ص. 20-21.
١٨- موسى، نبويّة، “العلم والدين الإسلاميّ والمبادئ الدستوريّة”، البلاغ الأسبوعيّ 1، عدد 28 (1927)، ص. 32-33
ميريام قورينغ
باحثة ألمانية متخصصة في التاريخ العربيّ الحديث، والدراسات الجندريّة، والآسيوية. عملت في الوكالة الاتحاديّة للتكوين السياسيّ، وفي إذاعة الدويتشه فيليه، وكذلك معهد الدراسات الإسلاميّة في جامعة بون، الذي تُعد فيه حاليًا أطروحتها للدكتوراه.