حين تدخل أيّ مطار من مطارات العالم، أو حين تتجوّل في أيّ مدينة كبرى من المدن العالميّة قد لا تنتبه إلى أنّ البشر أقرب إلى بعضهم البعض ممّا نتصوّر رغم الاختلافات الثقافيّة بينهم وما قد يحملونه من نظرة غير متناسبة مع هذا الدّفق الإنسانيّ. فالثابت في الأحوال جميعًا أنّ البشر، حتّى إذا لم نقبل بنا في كلمة أخوّة مِن عُمق إنسانيّ يبدو للبعض مثاليًّا، فإنّهم على الأقلّ سيستقلّون طائرة واحدة أو يركبون قطارًا واحدًا أو يزورون حديقة واحدة.
نعم أصبح ركوب القطار ثمّ الطائرة أمرًا اِعتياديًّا ساذجًا لا يكاد يثير الدّهشة أو التساؤل حول هذا الاختراع العجيب. دعك من هذا المسار المُتعرّج المعقّد الّذي أوصل البشريّة إلى الاِنعتاق مِن قيود الجاذبيّة.
فهذا الكائن الّذي خُلق
ضعيفًا، كما ورد في القرآن الكريم، لو تعلّقتْ هِمّته بما وراء العرش لناله
تُشير أسطورة «إيكاروس وأبيه الصّانع الحاذق ديدالوس»، كما نقلها في صيغتها الأولى «أوفيد» في الفصل الثامن مِن «التّحوّلات» إلى حُلم الإنسان في الإنعتاق مِن قيوده الّتي تشدّه إلى الأرض. إنّها قصّة ممتعة تروي حُلم البشريّة بأنَّ تُحلّق في السماء ناسية الحذر والخطر، مَحمولة بشهوةِ الاِكتشاف والاِنتقال مِن عَالم الأرض إلى مملكة السّماء. فهذا الكائن الّذي خُلق ضعيفًا، كما ورد في القرآن الكريم، لو تعلّقتْ «هِمّته بما وراء العرش لناله»، كما ما ورد في الأثر. وإذا كان جناحا إيكاروس المصنوعان من الشمع والريش قد ذابا بمجرّد الاقتراب من الشمس فإن حلم الإنسان المُحلّق في الفضاء ظلّ قائمًا إلى أن تمكّن أحفاد ديدالوس، رمز التقنيّة التي أراد بها الإنسان السّيطرة على الكون، من تجسّيمهِ. بيد أنّ الطائرة التي إن هي إلا وسيلة لتركيز قدرة الإنسان على الترقّي والتسامي بفضل الإرادة القويّة. فمسار البشريّة علامات مُضيئة، رغم الآلام والتعرّجات والانتكاسات، من ترقّ روحيّ وماديّ متواصل. ولسنا نرى «الدبلوماسيّة الثقافيّة» إلا أداة من أدوات التسريع بهذا الانعتاق من حدود الموجود سعيًا إلى المنشود.
ولا شكّ أنّ في جميع الثقافات أشباهًا ونظائر من هذا الحلم الذي نراه اليوم، بفضل التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ، ماثلًا أمام أعيننا، نتمتّع بثماره إلى حدّ نسيان أنّه كان منذ عقود خلت محض خيال وأمنيات.
ننسى أيضًا في غمرة تفاصيل حياتنا الحديثة وعاداتنا المستحكمة أنّنا في تلك الطائرة، نعيش طقوسًا مختلفة وعالمًا يكاد يكون مغلقًا بعاداته وقواعده وآدابه. هذا العالم الكونيّ الذي يوحّدنا ويعبّر عن مشاعرنا الإنسانيّة العميقة وقواعد العيش معًا طيلة الرحلة. كم هي بسيطة هذه الكلمة: رحلة! ولكن شروطها واضحة. لسنا في مكان مُثقل بخصوصيّاتنا الثقافيّة وعاداتنا الاِجتماعيّة ولغتنا الّتي ورثناها وخريطة سيرنا في الطرقات التي ألفناها ولكنّها ليست في الآن نفسه مقطوعة تمامًا عن ذلك كلّه. توازن دقيق يمكّن كلّ واحد منّا من المحافظة على هويّته الفرديّة والثقافيّة ولكنّه يلزمه راضيًا مرضيًّا، بالقبول بِمغامرة تحفظ أمنه وسلامته في ذاك العبور من مطار إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى.
علاوة على هذا التنوّع
بين الجماعات يوجد تنوّع الهويّات الفرديّة في عالم الحداثة الذي أصبح قائمًا على الفرد واختياراته
العبور! هذه هي الكلمة السّحريّة الثانية. في الطائرة نتعلّم تقنيّات الاستعداد للمخاطر كسقوط الطائرة لا قدّر الله. وهو طقس من طقوس الطائرة قد يبدو لمن سافر كثيرًا أنّه دخل في العادة والشكليّات، ولكن ليتذكّر كلّ واحد منّا أوّل رحلة له على متن طائرة. ذاك الإحساس الذي قد ينتابنا في غربتنا الظرفيّة، وذاك الاستعداد النّفسيّ للانضباط واتّباع قواعد جديدة في التّعامل ولو ظرفيًّا. كل ذلك يثبت أنّ الإنسان، بمحموله الرمزيّ وعاداته السلوكيّة، الفرديّة والثقافيّة، يمكنه أن يعبر ذاته وما ألفه ليذهب إلى شيء آخر، فيكتسب ثقافة جديدة يشترك فيها مع الركّاب الذين لا يعرفهم.
إنّه يجد نفسه في وضعيّة تواصل حقيقيّة تحمله على أن يتخلّص من الكثير من السلبيّات ويتدرّب على انسجام جديد في مُجتمع مُصغّر غير مجتمعه. إنّها ديناميّة شبيهة بما قد يعيشه المرء في مجتمعه الحقيقيّ من تنوّع وقدرة على فهم رموز الآخر دون التفريط في وعيه بذاته.
وتتداول شبكات التّواصل الاجتماعيّ لقطة مُتقنة الصّنع للتحسيس بالعنصريّة. دخلت امرأة في منتصف العمر الطّائرة واكتشفت أنّ المقعد الّذي أُسند إليها كان بجوار رجل أسود. كان مُنهمكًا على ما يُذكر في مطالعة كتاب. فعبّرت عن اشمئزازها من الوضع الذي وجدت نفسها فيه اشمئزازًا يكشف بالنظرة شزرًا إلى محاورها في الطائرة وتعابير وجهها، عن موقف عنصريّ. فما كان منها إلا أن نادت المُضيفة طالبة منها أن تغيّر لها المقعد. استمهلتها المُضيفة لتستشير قائد الطائرة.
وبعد ثوان خاطبتها قائلة ما أتذكّره بمعناه لا بلفظه دون أن تحدّد على ما تقتضيه اللُّغة الانجليزيّة جنس المخاطَب: «معك حقّ إنّه لأمر مقرف أن نجلس مع أناس متبجّحين لذلك يوجد مقعد شاغر في الأمكنة المخصّصة للناس الراقين». انفرجت أسارير المرأة وافترّ ثغرها عن ابتسامة رضا وهمّت بالذهاب إلى ذاك المقعد الشاغر. ولكنّ المضيفة فاجأتها بأنّ العرض موجّه إلى الرجل الأسود الذي لم ترض السيدة البيضاء أن تجلس إلى جانبه.
كانت لقطة ذكيّة استُخدمت فيها تقنيّات سينمائيّة ناجعة في التعبير عن التبجّح والأفكار السلبيّة، ولكن أهمّ ما فيها هو هذا القلب للمواقف على نحو مفاجئ للمرأة التي تتبنّى أفكارًا عنصريّة وللمشاهد أيضًا.
هكذا إذن تمثّل الطّائرة استعارة عن عالم مُصغّر يكشف جوانب كثيرة ممّا نعرفه في عالمنا الأكبر. وتاريخ البشريّة يقوم شاهدًا على أنّنا في رحلة مُستمرّة مِن مطار إلى آخر نجد فيها أنفسنا نعايش التنوّع في الأديان والأعراق والألوان والأجناس .. والأفكار كذلك.
علاوة على هذا التنوّع بين الجماعات يوجد تنوّع الهويّات الفرديّة في عالم الحداثة الذي أصبح قائمًا على الفرد واختياراته. فأضحى التنوّع مركبًا يستدعي قدرات ومهارات لدى الأفراد والجماعات بها يتعلّمون احترام الآخر على نحو مُستمرّ بما ييسّر لهم إضفاء الكثير من النسبيّة على ما ورثوه من قيم وعادات ورموز وتقاليد وتصوّرات إلى الإنسان والإله والكون. فهم محكومون في ذلك بإيجاد التوازن الدقيق بين تفتّح شخصيّتهم والانسجام مع الغير. فلا سلم ولا تفاهم في عالمنا المعولَم بثقافاته المتنوّعة إلا بتوفّر هذه الاستعداد أوّلًا وإتقان مهارات التواصل العابر للثقافات ثانيًا.
الدّكتور حمَد بِن عُبد العزيز الكواريّ
وزير دولة فِي قطر بِرتبة نائب رئيس وزراء، وهو حاليًا رئيس مَكتبة قطر الوطنيّة. ليسانس فِي الدِّراسات العربيّة والإسلاميّة مِن جامعة القاهرة – كلية دار العلوم، دبلوم دراسات عليا مِن الجامعة اليّسوعيّة، بيروت، ماجستير فِي الفلسفة السّيّاسيّة مِن جامعة السُّوربون، باريس، دكتوراه في العلوم السّيّاسيّة مِن جَامعة ولاية نيويورك (ستوني بروك(.
بدأ مَسيرتهُ المهنيّة ما بين 1972 و 1974 فِي المجال الدُّبلوماسيّ فِي لبنان بِمنصب القائم بالأعمال. ومن ثمّة عُيّن سفيرًا لقطر فِي سوريّة (1974-1979)، ثُمَّ فِي فرنسا (1979-1984). وقد شغلَ خلال هذه الفترة منصب السّفير غير المُقيم لدى اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، وسويسرا. ثمّ أصبح مِن 1984 إلى حدود 1990 مندوب دولة قطر لدى مُنظمة الأمم المُتحدة، وكان فِي الفترة نفسها سفيرًا غير مُقيم لدى الأرجنتين، والبرازيل، وكندا. فِي سنة 1990 عيّنته دولة قطر سفيرًا لدى الولايات المُتحدة الأمريكيّة إلى حدود سنة 1992، وسفيرًا غير مُقيم لدى المكسيك وفنزويلا. كما تقلّد الدّكتور الكواريّ مَنصب وزير الثّقافة، والفنون، والتّراث (2008-2016)، وقد رشَّحتهُ دولة قطر لِمنصبِ المُدير العام لليونسكو سنة 2017 واحتلّ المرتبة الأولى بعدد الأصوات خلال أربع جولات ثمّ حصل فِي الجولة الأخيرة على 28 صوت مقابل 30 صوتًا للمُنافسةِ الفرنسيّة.