لطالما حمل الشّعر الحقيقيّ على منكبيه العاريين من التزلّف والزيف، مركبة جوّابة آفاق تحمل من عطر الوطن العذب والزكي الشيء الكثير، بحيث تدور باحثة متجوّلة في كلّ الأقطار، سياحة روحية أحيانًا، وأحيانًا أخرى، تعبيرًا ثقافيًا ثاقبًا عن أقانيم الحب والخير والجمال.
والشّعراء كما عهدناهم، أصحاب رؤى يذهبون إلى مرامٍ بعيدة ليرفعوا من مفهوم الوطن. وفي البال دائمًا أنّ الوطن بالنسبة للشاعر، أي شاعر، قد يكون معادلًا لذات فوقية، سامية متطورة وحتّى مُتفوّقة تأخذ مِن ذاتها لكي توزّع على من حولها مشاعرًا غير مسبوقة،صعودًا إلى أحاسيس وإلهامات متجاوزة، كما في الرؤية المنسوبة إلى “عبقر” وادي الشّعر في أساطير محبّبة، أو الكون “النتشويّ”؛ ما بعد تقوّل الأفول الرّبوبيّ فِي عصر اِنحطاط الآلهة!..
إذا كان الفنّ لا يملك وطنًا، فالفنّانون يمتلكون واحداً
أمّا إذا حاولنا أن نقيس ذات الشّاعر بمعايير الذّات الإلهيّة الكبرى، بما تحمله مِن مشاعر وما تكتنفه من أحاسيس مُبعثرة ولكن مُنعشة وريّانة، نجد أنّ هذه الذات قمينة بكلّ ما قد قدّمه لها الوحي، كما جبلت مَع تُراب الأوطان كلّ قوى الطّبيعة الّتي تُطلق العنان للأسرار الأورفيّة المتجدّدة، والّتي تبحث حثيثًا عن الزوايا الأكثر حميميّة والأقرب إلى العاطفة والأوفى إلى القلب!
يُطرح السّؤال هنا: هل الوطن مجرّد صور باقية في متن القصيد، أم كيان سياسي ومكاني ماديّ، وأرضٍ صمّاء ساكنة صلدة، ولا شئ آخر، أم مكان نشعر فيه بالرّاحة والطمأنينة فيجلب لنا سكينة النّفس وأوقات الدّعة والفراغ وعدم الخوف من عتمة الروح؟
لا ننسى أنّ هنالك شعرًا ارتبط بالثورات والمُعاناة، كمثلّ شعر محمود درويش في قصيدته الشهيرة “عابرون في كلام عابر” حين، يقول:
“ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف شعبًا ينزف
وطنًا يَصلحُ للنسيان أو للذاكرة”.
وربّ سائل آخر حصيف يطرح أسئلة بسجيّة العارف والعليم:
هل كنّا نهرب صراحة من واقعنا المرير إلى “شانغريلا” الشّعر ولا نزال، نحنّ الى جزيرة طائر الرخّ لكي يحلّق بنا بعيدًا كما حلّق بالسندباد، وأنقذه من تهلكة باتت أكثر من محتومة، أم أننا نهجع في أروقة قصر “الجميلة والوحش” لنبتكر عالمنا الشعريّ الخياليّ..؟
نحن نعيش في زمن حيث نقرأ كثيرًا، لكي ندرك الحكمة ونفكر كثيرًا لكي ندرك الجمال
أم أنّ الحالة الشعريّة لا تعدُ سوى فكرة وجدانيّة تتنقّل بين الواقع والمُتخيّل، وبين ما يترسّب من فلذات الكينونة في تربة الواقعيّة الصُّلبة، ليتحوّل الكون الشعريّ إلى تصاوير لِلحزن، حزن وافد من أوطان سجينة ومدائن المرارات والأحزان التي لا تنتهي، مدن السواد المؤدّية بأهلها إلى الهلاك والضياع والاضمحلال!..
يقول” كاميل سانت ساينس” المؤلّف الموسيقيّ، الذي اشتهر برائعته “كرنفال الحيوانات”:
“إذا كان الفنّ لا يملك وطنًا، فالفنّانون يمتلكون واحدًا!”.
عَلى ضوء هذا القول، لا يسعنا سوى أن نبني للشعر موطنه، ليصبح واجب الوجود كما لو أنّ الفكرة ستتجّسد حتمًا، والمكان سوف يتماهى مع الكلمة الشّعريّة، بمشهدٍ صارخ لوحدة أزليّة مُباركة ترقص على مسرحها آلهة الأرض، وتصفّق لها ربّات الجمال في فردوس أرضي، ماديّ، نَلمسه، ونعاينه، ونراه في عرس الحواس وساعة الانقشاع.
في مقابلة خاصة أجراها الكاتب والأكاديمي؛ الدكتور متري بولس مع الكاتب والمفكر الكبير ميخائيل نعيمة ناسك “الشخروب”، يقول نعيمة:
لا أستطيع أن أُحلّل لك ما كانت تفعله في نفسي إطلالة الشمس من وراء صنين وإطلالة القمر في اللّيل، ومدى تأثّري بالأنغام السابحة بالفضاء طوال الليل!..
نستشفّ من هذا الكلام، ماهيّة الوطن بالنسبة لميخائيل نعيمة. فهو بالإضافة إلى الطبيعة الراسخة في جلاميد الصخور والأمداء المترامية، هنالك المشاعر الداخليّة والأحاسيس العصّية على الوصف والفهم، ولو تمّ التعبير عنها بالكلمات والأساليب الأدبيّة؛ فالطبيعة والوطن والإنسان يتداخلان إلى حدٍّ بعيدٍ، كما في مذهب الحلوليّة، ووحدة الوطن والأرض والإنسان، كذلك في مسارات الفكر الأدبيّ والإنسانيّ والانتروبولوجيّ حتّى، في حال العودة إلى الأصول البشريّة، وتاريخ بداية الفكر.
لم يتوقّف الشعراء يومًا عن تسخير خيالهم، من أجل خدمة المكان والوطن في المتخيّل الجامع لكلّ المشاعر بحثًا عن الجمال والإبداع في محاولة جاهدة لصناعة فردوس أرضي جديد، ولكن النّظرة الحديثة للشعر والأدب ترصد مرام وأولويات مختلفة ومتجدّدة، يقول أوسكار وايلد في هذا الصدد ما يلي:
“نحن نعيش في زمن حيث نقرأ كثيرًا، لكي ندرك الحكمة ونفكر كثيرًا لكي ندرك الجمال”.
يبقى الشّعر في كلّ ذرّة من ذرّات الوجود يعبّر عن ذات كبرى، موجودة في كلّ واحد منّا
وقد يقول قائل أنّ الجمال بحدِّ ذاته، كامنٌ في الأرض عينها، وموجود في كل ذرّة من ذرّات الطبيعة وتحديدًا في طبيعة الوطن الّتي تلفُّنا مِن كلّ حدبٍ وصوبٍ، والإنسان كما يقول أوسكار وايلد: “يغذّ السير حثيثًا نحو المعرفة والبحث والاستكشاف من أجل الحصول على هذا الوطن الحلميّ ومروج السعادة المرتجاة”. ويقول حافظ إبراهيم في هذا الصدد، وهو يصف كلّ ٳنسانٍ مغامر:
“ما عابَهم أنّهم في الأرضِ قد نثروا
فالشُّهبُ منثورةٌ مُذ كانت الشُّهبُ
رادوا المجاهِلَ في الدّنيَا ولو وُجدُوا
إلى المجرّةِ ركبًا صاعدًا رَكبوا”.
فِي شعر حافظ إبراهيم صورة واضحة عن تلك العلاقة بين الأرض والروح والوطن، أمّا فِي الشّعر الحديث، فالشّواهد عديدة وتُساعد على بلورة الفكرة أكثر، تقول نهاد الحايك في قصيدة “ضباب”، من ديوان “ٳعترافات جامحة” (2015)، وهي شاعرة لبنانية ولدت في لبنان بيد أنّها عاشت في نيويورك:
“يَحِلُّ الشفَقُ على نيويورك،
فيتساقطُ على القلبِ ليلٌ شاسعٌ
وتَرْتَـجِفُ الذاكرَة ..
كأنَّني هَجرَتْـني بلادي.
يَـبزُغُ الفجرُ في نيويورك،
فيزورُ البالَ حلمٌ ضائعٌ
وتَنـتفِضُ الذاكرَة..
أين أنا؟
كأنَّـني حَلُـمَتْ بـِبِلاديّ.
أَشُقُّ الأرصفةَ كجَدْوَلٍ يبحثُ عن نبعِهِ
عَـبْـرَ مُنـعَرجاتٍ حالِكةٍ،
وأَهيمُ في عالَـمٍ يَـمْتَدُّ كمرآةٍ
حافلةٍ بما لا يُلمَسُ..
كأنَّـني أضاعَـتْني بلادي.
أَبحثُ على الوجوهِ
عن علامةٍ،
وأُخفي نارًا اسمُها وطنٌ،
أو جرحٌ مفتوحْ،
سؤالٌ مُشَــرَّدٌ في صحراءِ الروحْ..
كأنَّـني لا شِفاءَ لي مِن بلادي.
يَمضي العمرُ في نيويورك،
وأنا أُلَـمْلِـمُ أبجديةً مُـبَعْـثرةً،
وأَزدادُ غموضًا..
مَن أنا؟
كأنَّني بَـدَّدَتْـني بلادي.
أَسْحَبُ ذكرياتٍ شاردةً،
أَشُقُّ اليَـمَّ إلى الأُفُــقِ،
فَلا أَجِدُ سوى شمسٍ أبعدَ بَعْد،
دُونَها كَثيفُ السَحَابِ..
كأنَّـني نَسِيَـتْني بلادي.
شِراعي مُرتَجِفٌ،
لا تُدركُهُ الرياحُ المؤاتِيَة.
كَمْ من الشِعر يَلْزَمُني
لأَمْـخُرَ هذا الضباب؟”.
ثمَّة في هذه القصيدة أصدق صورة عن مدى تمازج العاطفة، مَع المكان الثابت في روعنا وفي المُتخيّل وكم تبلغ حدّة الشعور، حين نُسافر، ونُهاجر، ويتحوّل الوطن، الوطن الجميل إلى مُشتهى، وحيث تَشتّد حِدّة المُقارنة بين الوطن الأم، ووطن الإقامة، وذلك الوطن الدَّاخليّ المُؤلّف مِن ذكرياتٍ، وطفولةٍ، وفتوّةٍ، وكهولةٍ، بِحيثُ ساهم لاوعينا، وأفكارنا، وهواجسنا، في تشكّيل “نوستالجيا” خاصّة تأخذنا إلى مَشاعر لم يكن لنا بها أدنى معرفة!
وَفي قصيدة “أرض تُولَد فِي الذَّاكرةِ” أيضًا مِن ديوان “اِعترافاتٌ جامحةٌ”، تقول نِهاد الحايك:
“ليتني لِلصّحراء نَخلة،
أو سَعفة، همس حفيفها أعذب مِن كلّ الأشعار!
لكنّني غبار”.
أمّا في قصيدة الشاعرة يُسرى البيطار “شهقة الفجر”، فنقرأ:
“كي أُغوِيَ اللّيلَ والأنسامَ بالعطرِ
بلّـلْتُ بالدمعِ شوقَ الخدّ والنّحرِ
ورحتُ أَصعدُ في التّنهيد أعبُرُهُ
كما عبرتُ قُرًى مِن سالفِ العصرِ
هي الأماكنُ أوفى في تشبّثِها
بمَن تحبُّ وإنّ الأرض لا تسري
ألقيتُ حبّي على الأغصان تعرفُهُ
وتعرفُ الوَرَقَ المغسول بالشعرِ
حملتُ ضوءًا وذاك العتمُ أتعبَني
ويؤلِمُ الرّيُّ ما قد ماتَ في الزهرِ
ورغمَ ما كان ممّا لستُ أذكرُهُ
جلستُ أقرأُ إخلاصي على النهرِ
سامحتُ حتى انحنى قلبي على جسدي
وهبّت الريح في أوراقيَ الخضرِ
لكنّ يُسرَى كما لا شيءَ يشبهُها
ولا ينالُ الأسى مِن شهقة الفجرِ
أُبدي الغضاضةَ تحت الثوب ناصعةً
كما بدا البرقُ في تلويحةِ الصدرِ
واللّيلُ رطبٌ وأعنابٌ تدورُ على
ثَغر المدائنِ حتّى عَذبةِ الخمرِ
أمسكتُ بالدمع حتّى لا أزِلّ كما
أمسكتُ بالبدر ملهوفًا على الخصرِ
“ولاحقًا”، قالَ: “نحكي لاحقًا” أدَرى
ببالِغِ الشوقِ؟ لا، بالشوقِ لا يدري
فِي قصيدة يُسرى البيطار، عُبور يتخطّى الزّمان والمكان، يتخطّى العصور والمسافة، وتتحوّل العلاقة بين الحب والروح والأرض إلى كينونة واحدة، إذ لا ريب في أنّ الأرض تتشبّث بِمن يحبّ ويعشق، ذلك الّذي حبّه ينبثّ في كلِّ مكان وكلّ زمان، كما في “اليوغا” أو تأمّل راهب تيباتيّ: “اوم ماني بادمي هوم”، الجوهرة في زهرة اللُّوتس! دعوة صريحة إلى الإمتلاء مِن وحي الخلائق العلويّة، كما الفراغ مِن كلّ مَا يملأ الكون وينتشر فيه!.
يبقى الشّعر في كلّ ذرّة من ذرّات الوجود يعبّر عن ذات كبرى، موجودة في كلّ واحد منّا والعبرة في اِمتلاك أدوات قراءة واضحة لِصفائح الأفكار الهائمة في مدارات هذا الفضاء الّلامتناهي في الامتداد وغير المحدود في الابتعاد!
د. انطوان يزبك
من مواليد عام ١٩٦٥ في بيروت. مُجاز في الأدب الفرنسيّ، وكذلك الفلسفة، وتابع دراساته العليا في الانتروبولوجيا اللاهوتيّة ، كما حصل على شهادة التَّمييز في الصّحافة المكتوبة من شبكة المحرر نيوز، بالإضافة لدراسته سنتين بتخصص علم النفس، وله العديد من المؤلفات العلميّة والفلسفيّة والأدبيّة، إلى جانب نشاطه في مجالي الترجمة والنّشر في المجلات العلميّة، ومنتسب لعضويّة عِدة جمعيات علميّة، وأدبيّة.